يقول جرير بن عطية: «تفرقت غنمي يوماً فقلت لها: يا رب سلط عليها الذئب والضبعا». هذا البيت الشعري البسيط يحمل حكمة سياسية عميقة تصلح لتفسير المشهد الجيوسياسي المعقّد في الشرق الأوسط اليوم. فالذئب والضبع عندما يجتمعان يتناحران على الفريسة، والنتيجة أن القطيع ينجو. وهذا بالضبط ما يحدث اليوم بفعل التنافس الصيني ـ الأمريكي على المنطقة؛ انشغال القوى الكبرى ببعضها جعل مشاريع التقسيم أصعب، وفتح شهية القوى الكبرى على المحافظة على وحدة البلدان وليس العبث بخريطة المنطقة.
منذ بداية القرن الجديد وحتى منتصف العقد الماضي، كان خطاب «الشرق الأوسط الجديد» و«الفوضى الخلّاقة» و«سايكس ـ بيكو جديدة» حاضراً في عقل السياسة الأمريكية. كانت واشنطن ترى في التفكيك مشروعاً يسهّل السيطرة ويتيح بناء كيانات صغيرة ضعيفة لا تملك القدرة على التمرد أو المقاومة. لكن هذا المزاج الأمريكي انقلب رأساً عقب بعد صعود الصين كقوة عالمية اقتصادية وعسكرية هائلة. فالتقسيم لم يعد فرصة، بل أصبح خطراً استراتيجياً قد يتيح للصين وروسيا وإيران وتركيا الدخول إلى كل جزء مقسم والتمدد فيه.
لقد أدرك الأمريكيون أن الدولة المقسمة تصبح ساحة مفتوحة لكل لاعب خارجي: إقليم يرتبط بتركيا، إقليم تحميه إيران، منطقة تستثمر فيها الصين، وأخرى تتسابق عليها الشركات الأوروبية. خطوط نفط تتجزأ، موانئ تتوزع ولاءاتها، وجبهات داخلية متعددة تحتاج إلى إدارة مستنزفة. بالنسبة لواشنطن، هذا يعني أسوأ سيناريو: فوضى لا يمكن ضبطها، وصراع مع منافسين دوليين في كل زاوية. لذلك تغيّر منطق السياسة الأمريكية: التعامل مع دولة واحدة موحدة أسهل بكثير من التعامل مع حكومتين أو ثلاث أو مع فصائل وميليشيات وكيانات.
إضافة إلى ذلك، انشغال واشنطن بالصين أصبح أولوية مطلقة. فالإدارة الأمريكية ترى اليوم أن المنافس الحقيقي ليس في الشرق الأوسط بل في بكين. 73٪ من صناع القرار الأمريكي، وفق مراكز أبحاث أمريكية مثل Pew وAtlantic Council، يرون أن الصين هي التحدي الأكبر، وليس الإرهاب ولا الشرق الأوسط. 58٪ من ميزانية الدفاع الأمريكية موجهة لردع الصين، و75٪ من حجم التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة تراجع منذ 2014. في ظل هذه الحقائق، لم يعد لدى واشنطن وقتٌ لفتح ملفات تقسيم أو إدارة صراعات جديدة داخل بلدان منهكة. المطلوب الآن هو إغلاق الملفات لا فتحها.
أدرك الأمريكيون أن الدولة المقسمة تصبح ساحة مفتوحة لكل لاعب خارجي: إقليم يرتبط بتركيا، إقليم تحميه إيران، منطقة تستثمر فيها الصين، وأخرى تتسابق عليها الشركات الأوروبية
أما الصين، فهي اللاعب الهادئ الذي قلب الطاولة دون ضجيج. بينما كانت أمريكا ترسل الجنود وتبني القواعد، كانت الصين ترسل المهندسين وتبني الجسور والموانئ ومحطات الكهرباء. أصبح الشرق الأوسط جزءاً أساسياً من مبادرة «الحزام والطريق». أكثر من 150 دولة وقعت على المبادرة، والصين أصبحت الشريك التجاري الأول في الشرق الأوسط، وتستورد الجزء الأكبر من نفط السعودية والإمارات والعراق. بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في المنطقة أكثر من 220 مليار دولار منذ 2013. الصين لا تريد دولاً ممزقة لأن ذلك يعني تهديداً لممرات التجارة، وخطوط الملاحة، واستقرار مشاريعها العملاقة. بمعنى آخر: الصين تريد الاستقرار، ووجودها في المنطقة دفع حتى خصومها إلى الميل نحو خيار الوحدة.
ولإثبات هذا التحول يمكن النظر إلى أمثلة واقعية. في سوريا، حيث كان الحديث عن مشاريع تقسيم أو حكم ذاتي واسعاً قبل سنوات، أصبحت واشنطن اليوم تعلن صراحة أنها تريد «سوريا موحدة». السبب بسيط: أمريكا لا تريد أن تفتح باب الشرق السوري للصين، ولا الجنوب لروسيا، ولا الشمال لتركيا. في العراق أيضاً تغيّر السلوك الأمريكي؛ فبعد أن كانت تتعامل مع إقليم كردستان ككيان شبه مستقل، أصبحت تدعم حكومة مركزية قوية لأن أي تفكك يعني دخول الصين بقوة على خطوط النفط والبنية التحتية. وفي اليمن، الذي كان الحديث فيه عن «يمن شمالي وجنوبي» أمراً شبه واقعي، أصبحت واشنطن ترفض التقسيم لأنه سيمنح الصين وجوداً عسكرياً محتملاً في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.
وهكذا يمكن القول إن وجود الصين المنافس الكبير جعل من مصلحة أمريكا الحفاظ على وحدة الدول، لأن التقسيم يخلق ثغرات تتسرب منها القوى المنافسة. لذلك علينا أن نشكر الصين — ليس بدافع الحب أو الإعجاب — بل لأنها بحضورها الثقيل والحاسم في المنطقة أجبرت الولايات المتحدة على التخلي عن مشاريع التفكيك التي كانت مطروحة بشكل مباشر أو غير مباشر قبل عقد من الزمن. لقد أصبح التنافس بين القوى الكبرى مظلة حماية للدول الضعيفة؛ تماماً كما في بيت جرير: عندما يتناحر الذئب والضبع، ينجو القطيع.
الصين في النهاية لا تحب أحداً ولا تكره أحداً؛ هي تبحث عن مصالحها. وأمريكا أيضاً لا تحب أحداً ولا تحمي أحداً؛ هي تسعى إلى نفوذها ومصالحها. لكن حين تتقاطع مصالح الكبار مع بقاء دولنا موحدة، نربح نحن دون أن ندفع ثمناً. لقد أصبحت وحدة الدول اليوم ضرورة جيوسياسية للقوى الكبرى نفسها، وليس خياراً أخلاقياً أو إنسانياً. لذلك فإن دخول الصين إلى الساحة الدولية منح المنطقة فرصة لالتقاط الأنفاس بعد سنوات من الفوضى.
وهنا تكمن المفارقة: القوى التي تتصارع فوق رؤوسنا قد تكون — من دون أن تقصد — هي التي تحمينا من إعادة رسم الخرائط ومن مغامرات التقسيم. فالشرق الأوسط اليوم يتحرك في ظل قانون جديد: صراع الذئب والضبع… والقطيع يخرج أقل خسارة. وعلى من لا يفهم قواعد اللعبة الجديدة أن يدرك أنه سيتحوّل إلى فريسة، لا إلى لاعب.
كاتب واعلامي سوري
- القدس العربي





















