شهدت سوريا أخيراً انعقاد محاكمات علنية مرتبطة بأحداث الساحل، في مشهد غير مألوف ضمن تاريخ القضاء السوري الذي اعتاد العمل خلف جدران مغلقة وبمنهجيات تفتقر إلى الشفافية. هذا التحول في الشكل لا يمكن التقليل من أهميته، فهو يشكل انتقالاً جديداً في الممارسة القضائية، ومحاولة لإظهار استعداد الدولة للتعامل مع ملفات شائكة أمام الرأي العام. ومع ذلك، فإن منح هذه المحاكمات صفة “العدالة الانتقالية” يمثل انزياحاً واضحاً عن المفهوم القانوني الراسخ لهذا النوع من أنظمة العدالة، بل يشكل مخاطرة سياسية في استبدال الشكل بالمضمون.
العدالة الانتقالية منظومة مختلفة جذرياً عن القضاء الجنائي التقليدي. فهي تبدأ بإطار تشريعي مستقل يصدر عن السلطة التشريعية، يُنشئ محاكم متخصصة أو دوائر عدلية ذات اختصاص نوعي، ويضع نظاماً إجرائياً يستجيب لطبيعة الجرائم الدولية التي شهدتها سوريا: من الجرائم ضد الإنسانية، إلى جرائم الحرب، إلى الإخفاء القسري والعنف الجنسي والتهجير الواسع. وهذه المنظومة لا يمكن أن تعمل ضمن هندسة القضاء السوري الحالية، ولا وفق قانون العقوبات أو أصول المحاكمات الجزائية بصيغتهما المعمول بها منذ عقود. فإعلان محاكمة علنية لا يكفي لتغيير طبيعة القضاء أو صلاحياته أو قدرته على التعامل مع ملفات تتجاوز قدرته البنيوية.
وإذا كان الشكل الجديد للمحاكمات يعكس رغبة سياسية في إرسال رسالة إلى الداخل والخارج بأن الدولة بدأت فتح ملفات الانتهاكات، فإن الدوافع السياسية لا تغيّر من الحقيقة القانونية. فالحكومة، وهي تواجه ضغوطاً داخلية من بيئات اجتماعية متضررة وضغوطاً خارجية تتعلق بملف المساءلة، تبدو حريصة على استثمار هذه المحاكمات في تعزيز شرعيتها. إلا أن هذه الرغبة السياسية لا تجعل المحاكمات جزءاً من العدالة الانتقالية، بل تكشف الحاجة إلى مسار مؤسسي حقيقي أكثر من أي وقت مضى.
وتصبح هذه الإشكالية أكثر وضوحاً عند النظر إلى موقع الضحايا في المشهد الراهن. فالعدالة الانتقالية، في جوهرها، هي عدالة قائمة على الضحية لا على الدولة. هي عملية تستعيد الحقيقة قبل الحكم، وتعترف بالانتهاك قبل إنزال العقوبة، وتفتح الباب أمام محاسبة جميع الجناة من دون انتقائية أو استثناء لأي طرف شارك في العنف. وهي بذلك تشكل عقداً اجتماعياً جديداً بين الدولة والمواطن. أما المحاكمات الحالية، فتبقى ضمن بنية قضائية لم تُجرِ أي مراجعة لذاتها، ولم تُظهر قدرة على التعامل مع الضحايا باعتبارهم أصحاب حق في الحقيقة والإنصاف، لا مجرد أطراف في خصومة جنائية.
وتاريخ القضاء السوري يجعل الفارق جلياً. فالسوريون لم يعرفوا طوال عقود محاكمة علنية واحدة لمسؤول كبير عن الانتهاكات، ولم يشهدوا محاسبة لأي جهاز أمني أو مؤسسة رسمية على الجرائم التي ارتُكبت ضد مواطنين. وكانت المحاكم، من محكمة الإرهاب سابقاً إلى المحاكم الميدانية، تعمل بوصفها أداة للضبط السياسي لا مساحات للعدالة. من هنا، تبدو المحاكمات العلنية خطوة جديدة تُكسر فيها سرية القضاء، لكنها تبقى خطوة داخل سياق قضائي قديم لم يتغيّر جوهرياً.
ويعزز خطاب رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة، باولو سيرجيو بينيرو، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هذا التناقض. فبينيرو حذر بوضوح من موجة عنف متجدد تهدد أي خطوة نحو العدالة، وأشار إلى عمليات إعدام ميداني وتعذيب وتهجير قسري، وإلى مقتل نحو ألف و400 مدني في اللاذقية وطرطوس وحماة في شهر واحد، بعضها على يد قوى يفترض أنها حكومية أو تعمل باسم الدولة. كما أشار إلى انتشار خطاب الكراهية، وتزايد العنف الجنسي، واستمرار التدخلات الخارجية، مؤكداً أن العدالة الحقيقية تتطلب معالجة الأسباب الجذرية للعنف، لا التعامل مع أعراضه.
وتكشف هذه المعطيات أن المحاكمات الحالية، مهما كانت علنيتها لافتة، لا تزال بعيدة عن توفير الحد الأدنى من شروط انتقال حقيقي نحو العدالة. بل إن الخطر الأكبر يكمن في استخدامها كبديل شكلي يقدم وهم المساءلة من دونها، أو كأداة لإعادة صياغة السلطة عبر محاكمات انتقائية. فاستقطاب القضاء في لحظة انتقال سياسي قد يحول العدالة من مساحة إنصاف إلى ساحة لتكريس موازين قوى مؤقتة، وهو ما يناقض جوهر العدالة الانتقالية بوصفها مشروعاً للمستقبل، لا أداةً لإدارة الحاضر.
وفي المقابل، فإن بناء مسار عدالة انتقالية حقيقي في سوريا يتطلب إعادة تصميم الإطار القانوني من جذوره. يبدأ ذلك بسن قانون للعدالة الانتقالية، وإنشاء هيئة مستقلة للحقيقة والانتهاكات، وتطوير قضاء متخصص قادر على التعامل مع جرائم واسعة النطاق، وإطلاق إصلاحات عميقة في مؤسسات الأمن والقضاء، بما يضمن عدم تكرار الانتهاكات ويعيد الثقة بين المواطن والدولة. ومن دون هذه الخطوات، ستبقى المحاكمات العلنية خطوة إيجابية لكنها محدودة، لا تؤسس لعدالة، ولا تصنع مصالحة، ولا تبني الدولة الجديدة التي تحتاجها سوريا لتجاوز تاريخها المثقل بالعنف والانقسام.
إن العدالة الانتقالية ليست مطالبة أخلاقية فحسب، بل ضرورة دستورية لبناء دولة حديثة. أما المحاكمات العلنية، فعلى أهميتها، لا تزال جزءاً من القضاء التقليدي، وليست مدخلاً إلى هذا المسار. العدالة التي تحتاجها سوريا اليوم هي عدالة تفتح الباب أمام جميع الحقائق، وتفرض على جميع الأطراف المثول أمام القانون، وتمنح الضحايا الحق في الحقيقة قبل الحق في الحكم. ومن دون ذلك، ستبقى العدالة مجرد مشهد، لا مسار، ومجرّد خطوة، لا بداية الطريق.
- المدن























