يتجهز السوريون -سواء داخل سوريا أم خارجها- لإحياء الذكرى الأولى للتحرير بعد أربعة عشر عاماً من احتفالاتهم السنوية التي كانوا يقدمونها في ذكرى الثورة قبل سقوط الأسد، سواء منها الاحتفالات التي كانت تقام خارج البلاد أو في المناطق التي كانت محررة من سيطرة الأسد.
وكانت تلك الاحتفالات بذكرى الثورة تتصاحب بغصة وألم كبيرين وكذلك بحالة يأس وتسليم بأن الثورة باتت مجرد ذكرى وأن الخلاص من نظام الأسد بات حلماً صعب المنال وربما مستحيلاً، ولا سيما بعد أن استعاد الأسد في السنوات الأخيرة مواقعه وعلاقاته العربية وبعض علاقاته الدولية وبدت عملية إعادة تدويره تتلامح كواقع لا بديل عنه.
واستناداً إلى ذلك فإن فرحة النصر كانت مضاعفة لأنها جاءت في لحظات اليأس وأيقظت الحلم مرة أخرى وحولته إلى حقيقية، ومن هنا فإن الاحتفالات المزمع إقامتها في ذكرى التحرير تكتسب استثنائية خاصة على اعتبار أن ما حدث نصر مضاعف، نصر على الأسد، ونصر على اليأس الذي تواكب مع فترة ما قبل سقوطه.
نغّص هذا النصر ما تلاه من أحداث سواء في الساحل السوري أو في السويداء، لأنها أعادت رائحة الدم التي كانت قد بدأت تتلاشى، وأحدثت تشققات جديدة في الجسد المنهك أصلاً، وأسست لتحديات عميقة ما تزال تشكل تهديداً مباشراً لذلك النصر..
ورغم كل الأحداث المأساوية التي تلت سقوط النظام، ورغم كل الأوجاع التي خلفتها، ورغم الواقع شديد التعقيد الذي لا يزال يتحكم بالمشهد السوري، إلا أن كل ذلك لا يلغي عظمة الانتصار ولا يقلل من قيمته التاريخية باعتباره نقطة تحول كبيرة رسمت ملامح مرحلة مقطوعة الصلة مع عهد آل الأسد، ذلك الكابوس الذي انتهى أخيراً بعد أن يأس السوريون من نهاية له.
نغّص هذا النصر ما تلاه من أحداث سواء في الساحل السوري أو في السويداء، لأنها أعادت رائحة الدم التي كانت قد بدأت تتلاشى، وأحدثت تشققات جديدة في الجسد المنهك أصلاً، وأسست لتحديات عميقة ما تزال تشكل تهديداً مباشراً لذلك النصر وتحمل معها ملامح المرحلة السابقة رغم غياب الأسد عن المشهد، إلا أن المرحلة الحالية لا تزال تتشابه مع عهده في جوانب متعددة أهمها حالة التفرقة والتشتت وغياب الثقة بين السوريين وبالتالي تهديد السلم الأهلي، وتهديد مستقبل سوريا والسوريين فضلاً عن الضبابية والغموض الذي يرافق المرحلة الحالية.
ومن هنا تبدو حماية الانتصار وحراسته في هذه المرحلة أهم من الانتصار ذاته، وذلك لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إعادة تعريف هذا الانتصار واستخراج هوية وشهادة ميلاد دقيقة له بحيث يتم النظر إليه على أنه انتصار للشعب السوري كله بكافة أطيافه وليس انتصاراً لمجموعة أو مكون واحد، وليس انتصاراً للمقاتلين وحدهم الذين لا يمكن إنكار فضلهم من خلال استمراريتهم وجاهزيتهم وتدريباتهم واستعدادهم، ومن ثم اتخاذهم المبادرة في التوقيت الصحيح والذي كان السبب المباشر للتحرير.
ولكن تضحيات السوريين الكبرى منذ بدء التظاهرات في الشوارع والمدن السورية وموتهم بالرصاص أو تحت القصف أو بالبراميل أو بالكيماوي أو تحت التعذيب، كلها عوامل أحدثت صدعاً أساسياً في صخرة النظام البائد وكسرت أنيابه الحادة وقلمت مخالبه الطويلة وأضعفته إلى الحد الذي أوصله إلى حالة الهشاشة التي ساعدت المقاتلين في عملية ردع العدوان على الإطاحة به.
ومن هنا فإن احتكار النصر وحصره في فئة محددة سيشكل خطراً كبيراً على استمراره من خلال صناعة فوارق متوهمة بين الصوت الذي ارتفع وصرخ مطالباً بالحرية أولاً معلناً رفضه للأسد منذ العام 2011 والبندقية التي حررت ثانياً.
بالإضافة إلى ذلك كله فثمة عامل هام للغاية ويبدو في منتهى الحساسية ويتجسد في ضرورة الاعتراف بأن الانتصار كان على نظام الأسد و”مافياته” وعصاباته وحلفائه والميليشيات الداعمة له، وليس على مكون محسوب عليه، أو على مكونات أخرى لا تتوافق أيديولوجياً مع الفئة المنتصرة.
وبالتأكيد فإن العدالة الانتقالية ستلعب هاهنا دور الحارس الشخصي لهذا الانتصار، وغيابها سيكشف ظهر الانتصار ويعرضه للطعنات الكثيرة وربما تكون إحداها قاتلة، وبِتأخّر مسار العدالة الانتقالية تزداد يومياً المخاطر التي تهدد استمرارية الانتصار وربما تجر البلاد إلى دائرة صراع جديدة تنخر في الجسد الذي لم يتعافَ بعد.
فيما يتعلق بمسار العدالة الانتقالية، فلا بد من توسيعه وإعادة تعريفه بناء على المستجدات الأخيرة، فلا يمكن حصره بفترة ما قبل السقوط وحدها بحيث يقتصر على الجرائم المرتكبة في عهد الأسد فقط، فالجرائم الحديثة التي تم ارتكابها في الساحل السوري والسويداء لا بد أن تدخل في ذات السياق، بل ربما يجب أن تحتل الأولوية لأن إهمالها سيعرض المسار كله للتشكيك، ولا سيما أن الجراح التي فتحت في فترة ما بعد الأسد لا تزال ساخنة وتشكل عرقلة واضحة للمسار المنتظر.
ويبدو التحدي الأكبر في هذا السياق هو القدرة على مواجهة الطائفية والاستقطاب المذهبي أو العرقي، وهو أمر لا يمكن فرضه بالقوة بل بالعمل الفعلي على خارطة طريق فكرية واجتماعية من شأنها أن توصل إلى الهدف المنشود أو تساعد في الوصول إليه بالحد الأدنى.
وذلك يمكن العمل عليه من خلال نشر حملات توعية عبر تفعيل النشاط الثقافي والفكري الجاد من منتديات ومحاضرات وورشات عمل وتفعيل دور الفنون وفتح الهوامش للنقد بحيث يكون أداة جادة وحادة في هذا السياق، وأن يلعب المنقود دوراً في دعم الناقد ويحميه من حملات التشويه التي قد تمارس ضده.
وبشكل أوضح: تأصيل دور النقد في أذهان الجمهور كأداة ضرورية للتطور وضمان حماية الناقد من أن يتردد في إعلاء صوته أو يخشى ردات الفعل المتشنجة والتي تصل في كثير من الأحيان إلى حدود التخوين، وردات الفعل تلك تشكل الفأس التي تهدم كل أساسات إعادة الثقة بين مكونات الشعب السوري.
ولكن الأهم هو تحقيق العدالة بمفهومها العام، أي منع الظلم بكل أشكاله سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو المعيشي أو الخدمي، فرفع أسعار الكهرباء أو الخبز على سبيل المثال في توقيت حرج وفي وقت يخوض فيه السوريون معركة تأمين لقمة العيش، قد يشكل خطراً على الانتصار، تأخير معاملات المراجعين أو التعامل معهم بشكل غير لائق، غض النظر عن أخطاء المسؤولين وعدم محاسبتهم، تبرير حالات الفساد مهما كانت نادرة، إهمال النقابات والمجتمع المدني، عرقلة عودة الموظفين الذين تم فصلهم من وظائفهم في زمن الأسد، أو طرد موظفين بلا سبب قانوني، كل ذلك سيكون بمنزلة الألغام والقنابل الموقوتة التي تزرع في جسد الانتصار وتهدد بنسفه في لحظة.
كثيراً ما كان الغرق في نشوة الانتصار سبباً في تراكم عوامل الخسارة، وفي الحالة السورية فإن إسقاط الأسد وبالطريقة التي حدث فيها يستحق فترة طويلة من النشوة شريطة أن تكون دافعاً لتحقيق متطلبات ما بعد السقوط بشكل لا يقل عن سرعة ودقة عملية الإطاحة به، فلحظة السقوط أصبحت من الماضي بكل الأحوال ولا يمكن البقاء عندها، ولهذا فلا بد من العمل على ركيزتين حيويتين:
- أولهما: الحاضر، أي الواقع اليومي للناس واحتياجاتهم ومتطلباتهم، وسلمهم الأهلي.
- ثانيهما: المستقبل والاستراتيجية المتوقع اتباعها لحماية القادم أيضاً وقطع الصلة بكل الشكوك التي يمكن أن تعرض المستقبل للخطر.
غير أن ضبابية الحاضر والغموض الذي يلف المستقبل وغياب الشفافية على هذا المستوى سيكون عاملاً أساسياً أيضاً في تفكيك بنية الانتصار وضعضعته وربما خسارته.
قبل البدء بالاحتفالات، يتوجب على القيادة السورية إجراء مراجعة شاملة وجردة حساب دقيقة لكل الأخطاء التي مورست خلال السنة الأولى لتوليها القيادة، سواء ما يتعلق بالأخطاء غير المقصودة، أو التجاوزات، أو التعيينات الخاطئة أو حالة الإقصاء التي لا يمكن نكرانها..
ليس أسهل من خسارة الانتصارات، وفي التاريخ السياسي سنجد كثيراً من الأحداث التي يمكن أن تكون دليلاً على ذلك وكثيراً ما تحققت انتصارات طال انتظارها سنوات طويلة وتمت خسارتها في أيام قليلة، رغم أن ظروف تلك الانتصارات كانت أقل تعقيداً من الظروف التي تحيط بانتصار السوريين على الأسد، ونحن اليوم محاصرون بمجموعة من المعطيات الخشنة والتي يمكن لواحدة منها فقط أن تكون سبباً في انهيار الحلم مرة أخرى، ولهذا فإن التحضيرات للاحتفاليات المقبلة يجب أن تكون مصحوبة بحالة وعي عميق حول كيفية الإجابة عن هذا السؤال الخاص بطرق حراسة الانتصار وحمايته.
قبل البدء بالاحتفالات، يتوجب على القيادة السورية إجراء مراجعة شاملة وجردة حساب دقيقة لكل الأخطاء التي مورست خلال السنة الأولى لتوليها القيادة، سواء ما يتعلق بالأخطاء غير المقصودة، أو التجاوزات، أو التعيينات الخاطئة أو حالة الإقصاء التي لا يمكن نكرانها، فضلاً عن الأهم: وهو ترسيخ عدالة شاملة، عدالة للجميع، وهي المحك الأساسي والحكم الذي سيطلق صافرة النهاية.
رغم تأخر كثير من الاستحقاقات التي كان يجب إنجازها في السنة الأولى التي تلت الإطاحة بالأسد، ورغم تذمر كثير من السوريين، ورغم مواقف العداء الكثيرة التي اتخذها بعضهم، إلا أن الوقت ما زال متاحاً أمام القيادة لاستدراك كل ما فات، وأي تلكؤ جديد سيراكم أخطاء جديدة تتحول إلى ملفات يصعب حلها، والانتصار الذي تحقق منذ سنة يقف اليوم على المحك، ورغم أن الجميع معنيون بحمايته، إلا أن العبء الأكبر في حمايته يقع على صانعيه المباشرين والذين سيكونون أكبر الخاسرين في حال التفريط به..
- تلفزيون سوريا



























