أثارت جريمة قتل رجل وزوجته سوريين في بلدة زندل جنوبي حمص صدمة لدى الأهالي، خصوصاً بعد أن تعمّد مرتكبوها حرق جثة الزوجة بعد قتلها، وكتابة عبارات طائفية على جدران منزل الضحيتين، ما يشي أن غرضهم إشعال فتنة طائفية، وضرب السلم الأهلي، ليس في محافظة حمص وحدها، بل في عموم سورية.
استدعت الجريمة فورة غضب، أعقبها فلتان أمني، وحدثت اعتداءات على الممتلكات والسكان في عديدٍ من الأحياء التي يسكنها أبناء الطائفة العلوية، فيما استنفرت قوى الأمن، وفرضت حظراً للتجوال في عدة أحياء في حمص. ووجه العقلاء والوجهاء نداءات إلى عدم الانجرار إلى المستنقع الذي أراده من يقفون وراء الجريمة، وطالبوا الأهالي بالتحلّي بضبط النفس، والابتعاد عن أي ردات فعل، وترك التحقيقات في يد قوى الأمن الداخلي، كي تقوم بمسؤوليتها لضبط الجناة وفرض الأمن.
تضاف الجريمة إلى سلسلة الجرائم والانتهاكات التي وقعت منذ التمرّد الذي قاده فلول نظام الأسد البائد في الساحل السوري في بداية مارس/ آذار الماضي، وكذلك أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا، وما شهدته محافظة السويداء من جرائم قتل وتهجير واختطاف. كما أن توقيت الجريمة يحمل دلالات إضافية، كونها ارتكبت بعد بدء محاكمات متهمين بارتكاب جرائم خلال أحداث الساحل، وفي وقتٍ تحاول فيه سورية دخول مرحلة من التعافي على المستوى الأمني، وتطمح في تحقيق مسار من الاستقرار الذي استهدفته هذه الجريمة.
أصحاب السلاح المنفلت يستغلون البيئة الأمنية الهشة من أجل إشعال اقتتال طائفي، لذلك يتخوّف سوريون كثر من انفجاره في أي لحظة
لا يمكن اعتبار الواقعة مجرّد جريمة جنائية ذات طابع فردي ومعزول، كما لا يمكن اعتبارها جزءاً من “اقتتال أهلي” متواصل، بحسب ما تزعم بعض أصوات طائفية وأصحاب عقليات ناقمة، لأن الحيثيات والمؤشّرات المحيطة بها، إضافة إلى طريقة تنفيذها، والعائلة المستهدفة فيها الجريمة التي تنتمي إلى عشيرة بني خالد، تشير بشكل قاطع إلى أنها استهدفت ضرب النسيج الاجتماعي، وزعزعة السلم الأهلي عبر تفجير بيئة اجتماعية تعدّدية، تعايشت تاريخياً في إطار مسكوني من العيش المشترك، وتشكلت خلاله علاقات وتفاعلات شكلت سدّاً أمام مساعي الانقسام ومحاولات التفتيت، الأمر الذي جسّده استنكار الجريمة من ممثلي جميع مكونات محافظة حمص ووجهائها، سنةً وعلويين ومسيحيين، ومطالبتهم بأن لا تشكل هذه الجريمة منطلقاً لضرب التعايش السلمي فيما بينهم، خاصة أن محافظة حمص لم تشهد في تاريخها أي صدام بين أهاليها، على الرغم من محاولات نظام الأسد تحويل المدينة إلى قنبلة موقوتة، يمكنه استخدامها حينما يريد، وذلك عبر تقسيم أحياء المدينة على أساس طائفي، حيث حصر سكان الأحياء القديمة بأهلها من السنّة، فيما تعمد إسكان العلويين في الأحياء الجديدة، والأمر نفسه ينسحب على العاصمة دمشق ومدن أخرى، خصوصاً في الساحل السوري.
لا جدال في أن مسؤولية توفير الأمن والأمان لكل السوريين على عاتق السلطات السورية، المفترض أن تزيل حالة الرعب التي يعيشها سوريون علويون في محافظات الساحل وحمص وحماة، لأن من حقهم العيش في ظل دولة القانون، مثلهم مثل سائر المكونات الأخرى، ولن يتحقق ذلك في ظل الفلتان الأمني الذي لا يميز بين الطوائف والإثنيات.
تطرح الجريمة وسواها من الجرائم المشابهة، خصوصاً التي ارتكبت في مناطق الساحل والسويداء، ضرورة معالجة الوضع الأمني في عموم الداخل السوري، والبدء باتخاذ خطوات ملموسة من أجل حماية السلم الأهلي والتنوع الاجتماعي، وتحقيق مسار العدالة الانتقالية. والأهم هو البدء بسحب السلاح المنفلت خارج نطاق أجهزة الدولة، حيث أظهرت الوقائع في حمص أن قوى الأمن الداخلي السوري وقفت عاجزة في بعض الشوارع عن ضبط عناصر مسلحة أطلقت النار عشوائياً في بعض الأحياء، ما يعني أن هناك واقعاً أخطر وأعمق من رد فعل غاضب وانفعالي على جريمة تجب معالجته سريعاً، ذلك أن الأمور قد تنفلت في حوادث أخرى مشابهة في المستقبل، يصعب ضبطها، وتقود إلى انتهاكات وخيمة.
شكلت السلطة السورية الجديدة لجنة للسلم الأهلي بعد أحداث الساحل، لكن المطلوب أبعد من تشكيل اللجان والهيئات، أن تبذل جهوداً حثيثة من أجل استعادة الثقة، وبناء السلم الأهلي
كشفت الأحداث في مناطق سورية عديدة بعد سقوط نظام الأسد أن أصحاب السلاح المنفلت يستغلون البيئة الأمنية الهشة من أجل إشعال اقتتال طائفي، لذلك يتخوّف سوريون كثير من انفجاره في أي لحظة. ويساعد على ذلك ما شهدته عدة مناطق، منذ أحداث الساحل، من حوادث اعتداء وانتقام، تضمّنت أحياناً تصفيات، طاول بعضها شخصيات كانت متورّطة في ارتكاب جرائم خلال عهد نظام الأسد البائد، كالاعتقال والتعذيب والاعتداء على الحقوق. وفي ظل عدم الاحتكام إلى القانون والتأخر في تحقيق العدالة الانتقالية، يصعب التحقق من خلفية جميع هذه الانتهاكات وحيثياتها وهويات مرتكبيها، خصوصاً مع انتشار الفوضى الأمنية، لكن المؤكد أن عديداً من حالات الانتقام وتصفية الحسابات، على اختلافاتها، حدثت وما زالت تحدُث، بوتيرة متفاوتة بين يوم وآخر وبين محافظة وأخرى.
المشكلة أن السلطة السورية تسعى إلى معالجة الوضع الأمني، وما يشوبه من أعمال عنف متكرّرة، بشكل مرحلي، وبالابتعاد عن مسار العدالة الانتقالية، وهو ما لا يضمن حماية السلم الأهلي، لأن العدالة الانتقالية، فضلاً عن أنها مطلب قطاع واسع من السوريين، تهدف إلى معالجة آثار الماضي المؤلمة من أجل الانطلاق نحو بناء المستقبل، وبنتيجتها يتحقق السلم الأهلي، بوصفه الحاصل المكمّل للعدالة الانتقالية، وحجر الزاوية لأي مجتمع يريد الاستقرار، والضمان لمنع الصراعات الداخلية. ولا يعني السلم الأهلي فقط غياب النزاع الداخلي، بل أيضاً يمنح المجتمع درجة كبيرة من التماسك والثقة المتبادلة والاعتراف بالمواطنة المشتركة.
لقد شكلت السلطة السورية الجديدة لجنة للسلم الأهلي بعد أحداث الساحل، لكن المطلوب أبعد من تشكيل اللجان والهيئات، أن تبذل جهوداً حثيثة من أجل استعادة الثقة، وبناء السلم الأهلي، عبر إنهاء ظاهرة السلاح المنفلت، والتصدّي لكل أنواع العنف، وضمان التعايش السلمي ضمن الإطار المسكوني السوري، الذي يؤسّس لوطن يتسع للجميع، بالتوازي مع عمليات العدالة الانتقالية، بغية معالجة الأسباب الجذرية، وبما يجعل الباب مفتوحاً أمام استعادة السلم الأهلي، وجعله مستداماً. إضافة إلى إشراك السوريين في مسؤولية بناء دولتهم ووطنهم، والتعامل معهم وفق مبدأ المواطنية المتساوية.
- العربي الجديد


























