كل الطرق أدت بالثورة إلى دمشق، أو بالأحرى عادت بالثورة إليها، بعد رحلة معفرة بالدم والألم والمنافي وقسوة الظلم وتكالب الأمم وشهوة الحكم وشراسة القمع. كل الطرق عادت بالثورة والثوار إلى الشام، حيث بدأت رحلة الحرية، وحيث كان يتوجب أن تستقر وتمضي وتنجح.
بعد عام من إسقاط نظام الأسد، ننظر إلى الوراء، فنجد عبوراً يستحق أن يكون نموذجاً للانتقال بين زمنين، هو أمر أشبه بالحلم، وربما تجاوز حتى أفضل الأمنيات. فأن تتمكن الثورة من السيطرة وتجاوز العقبات ومواجهة ميراث خمسين عاماً من القمع وتشويه عقل وقلب المجتمع السوري، وتقسيمه ما بين مؤيد للنظام وخانع له في الداخل، ومعارض خارج تراب الوطن أو تحته.. هذا التقسيم جعل النظام وربما معظم من كان يرى الأمر من زاوية التنظير وحسابات الواقعية، جعل هؤلاء، يعتقدون أن سقوط نظام الأسد، سيعني دخول سوريا في متاهة الفوضى والاحتراب الداخلي والفشل طويل الأمد. بل إن الأشهر الأخيرة للأسد، شهدت محاولات لإعادة تأهيله واستيعابه ضمن المنظومة الإقليمية، بعدما اعتقد الجميع أنه “انتصر” في صراعه الطويل مع الثورة، حتى بدا أن إدلب هي غاية ما كان يرجوه معارضو النظام للبقاء على جزء ضيق من تراب وطنهم. وحتى هذه كانت مهددة بالزوال، بالنظر لما كان النظام يحققه من نقاط سياسية، بعدما قام زعماء لهم وزنهم بطلب لقائه من دون اهتمام منه.
هذا الوقت القاسي لن ننساه، فقد كان هناك الكثير من الأسى والشعور بالقهر، لكن ليس اليأس. فقد كان تاريخ طويل للثورة استهلك جزءاً مهما من أعمار السوريين، ناهيك عن حياتهم وأموالهم وأولاهم واستقرارهم، ولم يكن هناك خط رجعة يمكن العودة من خلاله. كانت المراكب قد احترقت جميعاً، ولم يعد بوسع الناس إلا أن يستمروا بالعمل الذي بدأوه، وإن استغرق الأمر جيلاً آخر.
وبعد مضي عام على فتح دمشق وسقوط النظام، ما زال من غير الواضح تماماً تفاصيل ما جرى، وكيف تقررت عملية “ردع العدوان”، وماهي أهدافها الأصلية، قبل أن تتطور نحو الوصول إلى دمشق، ومن الذي كان معها أو ضدها، ولماذا بدا النظام بهذه الصورة الهائلة من الترهل والعجز والفوضى، ليسقط خلال عشرة أيام فقط، ويهرب رئيسه بطريقة مذلّة. وما هي مواقف وأدوار القوى الخارجية، بما فيها إيران وروسيا، اللتان لم تقاتلا كما كان متصوراً للدفاع عن حليفهما الأسد.
ولقد ورد بعض من الإجابات عن هذه التفاصيل بأشكال مختلفة ومتقطعة، لكن الرواية الرسمية الدقيقة والكاملة بحاجة لتوثيق دقيق وتفصيلي، بما في ذلك أدوار الأشخاص والحكومات ومواقفها. وهو أمر يستكمل سردية الثورة ويوثقها، وهو مهم لأنه سيضع الفاعلين وفق حجومهم، ويحفظ لكل منهم قيمته التي يستحق. لكن ذلك ليس نهاية المطاف، فهو مجرد جزء من سياق تنظيمي، ولن يتعدى في أهميته إجراءات ومواقف أخرى هي أكثر تأثيراً في حاضر سوريا ومستقبلها.
انتصرت الثورة، لكنها ورثت دولة فاشلة ممزقة ومنبوذة، وشعباً منقسماً، وعدداً هائلاً من الجلادين والضحايا، وخراباً شمل كل شيء. وعليها أن تعالج كل ذلك بوقت قصير، وأن تتصدى في الوقت نفسه لمجاميع كبيرة من أزلام النظام المخلوع، ارتبطت مصالحهم ومصيرهم به، وكانوا مطايا لأطراف خارجية أرادت اجهاض القيادة الجديدة قبل أن تتمكن وتسيطر. فكان ما شهدناه من حالات تمرد واعتداءات وأعمال عنف لاختلاق حرب أهلية تنهي النظام الثوري قبل أن يبدأ.
كان ذلك اختباراً صعباً، لكنه كان مهماً لمنح القيادة الجديدة هوية وشكلاً تُعرَّف به، وحتى مع وجود أخطاء فيما حصل. وقد لا يكون في الإمكان أفضل مما كان، قياساً لتعقيدات الأمر وتشابكه وسيولته والعزلة الدولية التي كان عليها سوريا، فضلاً عن المرجعية التي جاء منها المنتصرون، والتي كانت عنصر ضغط آخر، كان يمكن أن يودي بالقيادة والدولة معاً، لولا كثير من الحكمة والصبر ودعم مقدر وحاسم من الأشقاء والأصدقاء.
والآن، وبعدما استقر الأمر للقيادة السورية، وجرى حصر التمرد في الجنوب في موضعه الجغرافي، وبات تمرد قسد على وشك النهاية، واقتربت واشنطن ومعها الغرب من رفع العقوبات بالكامل.. بعد كل هذه الإنجازات، في العام الأول، يصبح بناء أجندة للعام الثاني تتضمن تقدماً ملحوظاً وأساسياً في الملفات القانونية الخاصة بالعدالة الانتقالية، وفي الملف السياسي الخاص بالحريات العامة، وبناء النظام الحزبي والتعددية، أمراً جوهرياً لتحقيق أهداف الثورة وإنصاف الشهداء الذي ضحوا من أجلها. إن انتظار انتهاء الأزمات التي يثيرها المتضررون من سقوط النظام أو الانفصاليون، لن يكون مفيداً إلا لمنح المشككين فرصة وموضوعاً. والصحيح هو العمل بالتوازي، لبناء المؤسسات وإصلاح الاقتصاد، وإعادة المهجرين واللاجئين، وتحقيق العدالة الانتقالية وتنظيم الحياة العامة على أساس الحريات السياسية.
كل ذلك يستغرق وقتاً قد يستهلك معظم الوقت المتبقي من مهلة السنوات الخمس التي حددها الإعلان الدستوري لانتهاء المرحلة الانتقالية، والجهد الذي سيبذل في التهيئة لذلك اليوم، هو بحد ذاته سيكون تتويجاً للثورة ولنضالات السوريين. ولذلك، فالهم اليوم هو البدء بالعمل، وليس انتظار “أوقات أفضل”. فالعمل هو ما يضمد جراح الناس ويمنحهم الأمل ويقضي على ما بقي من أحلام الأزلام وأعداء الثورة في الداخل والخارج.
- المدن



























