ها قد أزفت السنة الأخيرة من العقد الإصلاحي " الأول " الذي بدأ بشكل فاعل في عام 2000، واستناداً إلى محصلة السنوات الماضية، يبدو أن عملية الإصلاح الاقتصادي في البلاد ستستغرق أكثر من عقد. ورغم أهمية الملفات التي تم فتحها.. وتناولها..وحل معضلاتها، إلاّ أن استحقاقات أخرى ذات طابع اقتصادي واجتماعي ما زالت مؤجلة بانتظار التنفيذ .
1- الأجور.. الأجور .
بلغ متوسط معدل النمو خلال السنوات الثلاث الماضية نحو 5,4 %، لكن المواطن لم يقتنع بأهمية ارتفاع نسبة النمو،إذ لم تترافق مع إعادة توزيع ثمارها على الفئات والشرائح الاجتماعية وفق مبدأ العدالة الاجتماعية، بل ذهبت إلى التجار الكبار والمستثمرين وأسياد الأسواق. وتفاقمت في الوقت نفسه الأزمات المعيشية والاجتماعية للفئات الأقل دخلاً من العاملين وصغار المزارعين والمتقاعدين،وتضاءلت دخولهم الحقيقية بعد تفرد القطاع الخاص بالأسواق، وتسببه بموجات غلاء متلاحقة وصلت إلى 60%،بين عام 2004 وعام 2008، وانخفضت حصة الرواتب والأجور (مجموع دخول العاملين بأجر) من الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج من 22% في عام 2000 إلى 19% و18% عامي 2005 و2006، وهذا يعني أن الدخل الناتج عن الربح والريع والفائدة يزداد على حساب دخل العمل .
مازالت مطالب العاملين بأجر في القطاعين العام والخاص الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان،بوضع سلم للأجور يتناسب مع غلاء الأسعار يراوح في المكان،إذ يبلغ متوسط الأجور في القطاع الخاص نحو 6500 ليرة سورية أما وسطي الأجور في القطاع العام فبلغ نحو 9500 ليرة،والمفارقة هنا أن الحكومة عدّت بموجب شروطها لاستحقاق الدعم النقدي بدلاً عن ارتفاع أسعار المازوت، العائلات التي يبلغ دخلها أقل من 34000 ليرة شهرياً تستحق الرعاية.. والشيكين الداعمين .
وفي حين بلغت حصة الفرد السنوية في عام 2009 من الناتج المحلي الإجمالي 70700 ليرة سورية،مرتفعة من 68400 ليرة في عام 2008، حسب التقرير الاقتصادي للحكومة،فإن تقرير مراجعة منتصف المدة للخطة الخمسية العاشرة، الصادر عن هيئة تخطيط الدولة يفيد أن عدداً من سكان سورية يعانون الفقر رغم انخفاض نسبتهم، إذ ارتفعت نسبة عدد السكان تحت خط الفقر الشــــديد إلى 12.2?،كما ارتفعت نسبة عدد السكان تحت خط الفقر العام إلى 34.5 %من إجمالي عدد السكان. ووفقاً لمعيار تكلفة المعيشة انخفضت كتلة الرواتب والأجور كنسبة من الناتج الإجمالي المحلي إلى 30? في عام 2007بدلاً من 32? في عام 2005 . وتراجعت معدلات نمو الأجور الحقيقية إلى 3.2? في عام 2008،بدلاً من 9.9? في عام 2005،كما أثّر إلغاء الدعم الجزئي على بعض المواد سلباً على تكاليف المعيشة في ضوء الارتفاع المستمر للأسعار .
هل بعد ما أشرنا إليه،نستغرب فترة الانكماش والكساد الذي تشهدها أسواقنا؟ وهل بعد ذلك نتعجب من انخفاض الإنفاق الأسري على الصحة..والتعليم..والثقافة..والسياحة الداخلية، وزيادة بؤر الفقر، والفقر المدقع؟ إن المهمة الأساسية التي تقع على عاتق الحكومة حسب اعتقادنا هي إيجاد التوازن المطلوب بين دخل المواطنين والمستوى العام لأسعار المواد والخدمات الأساسية،أي رفع الأجور للعاملين في القطاعين العام والخاص بنسبة طردية مع ارتفاع الأسعار والخدمات .
2- البطالة.. الفقر..وتوليد فرص العمل والقطاع العام الصناعي .
حين طالبنا الحكومة مراراً بتوسيع استثماراتها العامة،وإصلاح وتطوير قطاعها العام الاقتصادي ،وتوجيه الاستثمارات الخاصة باتجاه الاقتصاد الحقيقي كالصناعة والزراعة،كنا نهدف إلى توليد فرص عمل جديدة لمحتاجيها من الشباب الذين يرفدون سوق العمل بنحو 210 آلاف باحث عن فرصة عمل،إذ تبين بعد تحليل نصف مدة الخطة الخمسية،أنها ولدت 277 ألف فرصة،من هدفها البالغ 625 فرصة عمل. أما المشاريع الاستثمارية المنفذة والمشمولة بقانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 وتعديلاته، فقدمت 105.465 فرصة عمل فقط خلال 17 عاماً، منذ عام 1991 حتى عام 2008،منها 66.840 فرصة في قطاع الصناعة، و 35000 فرصة في قطاع النقل، و 3000 فرصة في القطاع الزراعي .
حسب التقارير الحكومية انخفضت نسبة البطالة خلال العام الماضي من 11% إلى 8.5%. لقد تحسنت عوامل الجذب الاستثماري،وارتفعت مساهمة الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية، وهذا ما نعدّه تطوراً إيجابياً. لكن هذه الاستثمارات، كما يؤكد تقرير هيئة التخطيط المشار إليه، توظف ملياراتها في قطاعات السياحة والتأمين والمصارف والنفط.! أي في القطاعات الريعية التي يشكل الرأسمال العامل الرئيسي في زيادة إنتاجيتها،بينما يتراجع دور اليد العاملة،هذه المشاريع الريعية تساهم حتى الآن بالقسط الأكبر من مسببات النمو الاقتصادي في البلاد،وهذا ما يجعل اقتصادنا مرهوناً بالتقلبات البهلوانية في مؤشرات البورصات العالمية..أو بقرار سياسي تتخذه القوى الخارجية .
جاء في العرض الاقتصادي للحكومة أمام الاجتماع الدوري لأحزاب الجبهة في شهر كانون الأول من عام 2009،أن قيمة الاستثمارات الصناعية المنفذة حتى الشهر السادس من عام 2009،تقدر بنحو 50 مليار ليرة سورية،ومن المتوقع أن يصل الاستثمار الكلي للقطاع الخاص إلى 1149 مليار ليرة في نهاية عام 2009،ورغم هذه الأرقام،فإن معدلات النمو المحققة، ومعدلات الفقر والبطالة،تشير إلى أن كفاءة الاستثمار في سورية ما زالت دون المستوى المطلوب. وقد ارتفعت نسبة البطالة إلى 11% في عام 2008- حسب أرقام الحكومة – بينما يقدر بعض المحللين الاقتصاديين أن هذه النسبة تجاوزت 16%. أما مؤشرات الفقر فقد ارتفعت متجاوزة أهداف الخطة الخمسية،إذ بلغ معدل الفقر الأدنى 12%، لكن تقرير هيئة التخطيط يبين ارتفاع مؤشر الفقر العام من 30% عام 2004، إلى 6ر33% في عام 2007، ثم إلى 6ر41 % في عام 2008،ويتوقع ارتفاع هذه النسب نتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية والعقارات والمشتقات النفطية .
أما القطاع العام الصناعي،فما زالت همومه رهينة ملفات مؤجلة،رغم إعلان مسؤولي الاقتصاد في البلاد أنهم متمسكون بهذا القطاع، وهم جاهزون لتطويره،وتحسين أدائه، فقد صرح وزير الصناعة أن وزارته مستعدة لإقامة أي مشروع صناعي شريطة توفر الجدوى الاقتصادية. ولا ندري هنا ما هي العوائق التي تمنع وزارة الصناعة من اقتراح المشاريع المناسبة،وتقديم دراسات الجدوى الاقتصادية الخاصة بها؟
إن مطالبتنا بإصلاح القطاع العام الصناعي وتوسيعه، تتناقض تماماً مع مطالبات البعض،الذين يسعون من وراء شعارات دعم القطاع العام إلى" حلب" هذا القطاع حتى آخر قطرة.! فنحن نسعى إلى إصلاح مؤسسات وشركات هذا القطاع – الرابحة والحدودية – إدارياً ومالياً وتقنياً،وتخليصها من الفساد الذي انتشر في بعض مفاصلها الأساسية،وذلك لزيادة الفوائض الاقتصادية التي تدعم بها خزينة الدولة،فليس من المعقول أن تبلغ قيمة أصول هذا القطاع أكثر من تريليون ليرة سورية،في حين تبلغ الفوائض التي يقدمها نحو 36 مليار ليرة .
استحقاقات اقتصادية واجتماعية مؤجلة منذ بدء مسيرة الإصلاح الاقتصادي،فهل يشهد العام الحالي
جهداً حكومياً لبحثها،وحلها وفق توازن حقيقي بين السوق ومتطلباته،والهم الاجتماعي وضرورته.؟
كلنا شركاء 25/1/2010