بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ضعفت مكانة المنظمات الدولية وفاعلية أدائها على الساحة، فقد كان صراع القطبين يصبغ عمل هذه المنظمات بمصداقية وحيادية وفاعلية كبيرة، لكن الأمور تغيرت بعد أن همّش القطب الأوحد الأميركي دور المنظمات واستخدمها كأداة لتحقيق مصالحه، ومن هنا ضاعت سمعة الموظف الدولي الذي أصبح تعيينه يخضع أولاً وأخيراً لمشيئة وإرادة واشنطن.
ونذكر هنا الجهود التي بذلها الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس غالي من أجل الحصول على فترة ولاية ثانية، ولكن حال دون ذلك الفيتو الأميركي، بينما حصل خليفته كوفي عنان على فترة ولاية ثانية بسهولة، بسبب الرضا الأميركي عنه، والذي تبلور بوضوح في حصوله على جائزة نوبل للسلام عام 2001.
المصري محمد البرادعي تولى إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بطريقة غير عادية، حيث لم يكن مرشحاً للمنصب من قبل بلده مصر، بل طرحته واشنطن من خلال مجموعة دول إفريقية.
بينما رشحت مصر السفير محمد شاكر صاحب الخبرة الواسعة في الشأن النووي، ووفق خطة محكمة لم يدخل البرادعي المنافسة في الجولة الأولى ودخلها محمد شاكر ضد منافس سويسري قوي وفاز عليه شاكر بفارق خمسة أصوات، وتحدد جولة ثانية، لأن أحدهما لم يحصل على ثلثي الأصوات.
ولكن في الجولة الثانية تأخرت مصر في طرح السفير شاكر للمنافسة بسبب مواكبة المنافسة لترشيح بطرس غالي لفترة ثانية في الأمم المتحدة، ولم يكن مقبولًا أن تستحوذ مصر على المنصبين فكان عليها أن تختار أحدهما، وانتهز البرادعي الفرصة فطرح نفسه، ولم يكن أمامه أي منافس.
ويقول السفير شاكر أنها كانت لعبة أميركية محكمة، لأنهم كانوا قد عقدوا العزم على رفض ترشيح بطرس غالي للأمم المتحدة، ولم يعط الأميركان صوتهم للسفير شاكر في الجولة الأولى بينما أعطته روسيا والصين وفرنسا أصواتها. وكان على البرادعي أن يرد الجميل لواشنطن، خاصة وأنه كان يطمح للبقاء في الوكالة لأكثر من ولاية مثلما فعل سلفه هانز بليكس، وبالفعل أعيد اختياره في سبتمبر عام 2001.
وكان اشتراكه في اللجنة المشكلة للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق اختباراً صعباً للغاية، خاصة أن زميله في رئاسة اللجنة هانز بليكس أخذ موقفاً مضاداً لما تريده واشنطن تماماً، ولم يستطع البرادعي أن يأخذ موقفاً مناقضاً تماماً لبليكس فقرر اللعب على الحبال.
وكانت تصريحاته المتكررة عن عدم تعاون العراق مع المفتشين الدوليين تنطلق بغزارة وتصنع المناخ الإعلامي والنفسي وتهيئة الأجواء لبدء الحملة العسكرية الأميركية، رغم أنه ينكر ذلك تماماً الآن.
ويقول إنه منذ البداية دافع عن موقف العراق وسعى لدرء الضربة الأميركية، لكن هذا غير صحيح، وتصريحاته آنذاك موجودة على الإنترنت لم يمحها الزمن، وآخرها تصريحه في طهران يوم 22 فبراير قبل الغزو بأيام قليلة، الذي انتقد فيه العراق بشدة لعدم تعاونه مع اللجنة، ونفس الأسلوب اتخذه البرادعي مع النووي الإيراني حتى آخر لحظة.
بينما لم يسمعه أحد ينتقد إسرائيل ولا مرة واحدة، ولم يطالبها بكشف غموض برنامجها النووي، وأكثر من ذلك أنه عند زيارته لإسرائيل في يوليو 2004 لم يقم بزيارة مفاعل ديمونا ولا أية منشأة نووية إسرائيلية، الأمر الذي جعل الجميع يتساءل «لماذا زار البرادعي إسرائيل؟».
البعض يرى أنه زار إسرائيل لأنه يطمح لولاية ثالثة في الوكالة، وكان يشعر بأن واشنطن تعد مرشحاً آخر غيره، ونحن لا نشكك في نزاهة البرادعي ووطنيته، ونرى أنه ربما يكون هناك بعض المبالغات في الحديث عن ممارساته في الوكالة، لكن الحقيقة أنه كان مرتبطاً بشكل كبير في عمله بواشنطن وتوجهاتها.
عندما يأتي البرادعي الآن ليترشح لرئاسة مصر يصبح الأمر في غاية الخطورة، خاصة أننا على يقين من أن مشكلات مصر الداخلية في مجملها لا تنفصل عن التدخلات الأجنبية التي أغرقت مصر في كم من المشكلات لتشغلها تماماً عن ممارسة دورها الإقليمي، وبالتالي إذا جاء موظف دولي من الطراز الأميركي الجديد فسيزيد الطين بلة، خاصة أن البرادعي الذي اقترب من السبعين من عمره ليس لديه من الوقت ولا من القوة ليحقق طموحات الشعب المصري في التغيير.
والحماس من البعض للبرادعي ليست له أي أسس موضوعية، بل هو مجرد انفعال وتعبير عن الضيق من الأوضاع القائمة، وفي نفس الوقت يعكس الفراغ الشديد الذي تعاني منه الساحة السياسية في مصر.
نحن نريد التغيير، ولكن التغيير للأمام وليس لمزيد من التراجع.
"البيان"