من بين مجموعة كبيرة من الإعلانات عن برامجَ احتفاليةٍ وفعّالياتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط نظام الاستبداد الأسدي في 8 من كانون الأول ديسمبر 2024، لفت نظر كاتب هذه السطور إعلانٌ يقول: “تدعوكم مديرية الشؤون السياسية في محافظة درعا لحضور ندوة بعنوان: أكان نصرًا إلهيًا أم توافقًا دوليًا”، وتحدد المكان في صالة المركز الثقافي بمدينة درعا وتحدد الزمان يوم الأحد في السابع من كانون الأول قبل ذكرى النصر بيوم واحد. بصرف النظر عن أسماء المحاضرين الذين نكنّ لهم كل الاحترام والتقدير، فإننا نركّز النقاش ليس على عنوان الندوّة فحسب، ولا على طبيعة النصر موضوعها فقط، بل وبالدرجة الأولى على الذهنية السائدة في التعامل مع الواقع السوري المستجدّ بعد التحرير.
أوّل ما يسترعي الانتباه في العبارة استعارتها من خطابات حسن نصر الله الزعيم السابق لميليشيا حزب الله اللبناني، وكأنّ العربيّة على رحابتها قد ضاقت بما وسعت عن إيجاد العبارات لوصف هذا النصر! أو كأنّ المثال المقتدى به كان ناصعًا مشرقًا في نقائه، عادلًا صادقًا في انتمائه، مخلصًا وفيًا للقضيّة التي كان يدّعي نصرتها! أو كأنّ الجمهور المخاطب بها مشابه لذلك الجمهور على ما بينهما من فوارق لا تخفى على أحد! بعد ذلك تأخذنا الطرافة في العبارة لتحليل طبيعة النصر ذاته، خاصّة من ناحية حامله الأساسي، فنجد أنّ الحدّ الرئيس والجوهري في معادلة النصر قد غُيّب تمامًا عن العنوان، ولا نعرف هل سيغيب كذلك عن الندوة التي قد تتم وتُنجز قبل نشر هذا المقال. الشعب الذي ثار قسم منه بوجه أعتى آلة طغيان عرفتها المنطقة، الشعب الذي صبر جزء منه على العيش تحت سلطة النظام المخلوع وفي ظل وطأة إرهابه اللامتناهي واللامحدود، الشعب الذي تهجّر قسم منه وتشرّد في أربع جهات الأرض وعاش في الخيام وقضى في البحار والغابات والطرقات. هذا الحّد الأصيل الغائب عن المعادلة هو العامل الأول في تحقيق النصر، وهو الفاعل الرئيس في الوصول إليه.
أهمّ من هذا وذاك، العقلية التي تتدبّر الأمور كلّها في الخطاب العام ممن هم في صفوفٍ داخل السلطة وخارجها. مستويات التبرير السياسي لدى بعض كبار الشخصيات مثل ممثل سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة خلال حديثه عن جولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفقة قادة أمنيين وعسكريين إلى جنوب سوريا مثلًا، ومستويات التبرير الإعلامي عند بعض المثقفين والإعلاميين والشخصيات المهمة على مستوى المكانة العلمية أو الفنية أو الاقتصادية لأي خلل أو خطأ أو تجاوز في التعامل مع قضايا كبيرة وحسّاسة، طبيعة الهجوم على أيّ انتقاد يقدّمُ ولو كان للصالح العام أو مهما كان صاحبه، تجعلنا نفتّش عن أسباب العطب في الخطاب ذاته. ما دامت أشكال التفكير واحدة أو متقاربة، وما دام جوهر الخطاب واحدٌ أيضًا، رغم اختلاف المنابت والطبقات والانتماءات لأصحابه، فهل مردّ ذلك إلى بيئة التفكير الحاضنة، أم إلى اتحاد مصالح الأفراد والجماعات المنضوية تحت سقف المنظومة الجديدة؟ ثمّة حالة معقّدة من كل هذا وذاك، فبعض الشخصيات التي كانت تجاهر بالعداء لجبهة النصرة ومن بعدها لهيئة تحرير الشام ولقائدها، الرئيس الحالي، هي في الصفوف الأولى من حملة هذا الخطاب ومن أشرس المدافعين عن الحكم الراهن.
وبالعودة إلى نص الإعلان عن الندوة المذكورة، هل يحق لنا أن نتساءل: هل كان الله غائبًا عن نصرة السوريين طيلة أربعة عشر عامًا لينصرهم في معركة ردع العدوان، وهل يمكن تصوّر ارتباط النصر بهذا العنصر العسكري فقط، أي بالشعرة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير وكانت تتويجًا لنضالاتٍ وتراكماتٍ استمرت عقدًا ونصفَ العقدِ من الزمن، وما المعيار الذي يمكن من خلاله قياس العنصر المعنوي الذي يتعلّق بمساحة الإيمان، التي هي بطبيعتها فردية، لنعرف آليات تحقق النصر الإلهي؟ ثم إذا كان النصر إلهيًا، فهو نصر الله وليس نصر السوريين، فلماذا نحتفل به؟ أليس في كل هذا خروج عن طبيعة الأشياء ومنطقها السليم، حيث يُنسب لله ما هو ليس بحاجة إليه! القول بإلهيّة النصر على الطغيان فيه إساءة للخالق عزّ وجلّ من جهة، لأنّه يجعله في مكانة مساوية للشر الناتج عن استبداد عباده، وفيه إساءة للناس الذين كانوا وقود النصر طيلة هذه السنوات كلها. ليس الله بعاجز عن منع الشر الكامن في البشر حتى يكون بحاجة للانتصار عليه، وليس الشر الكامن في البشر ندًا لله جلّ وعلا لنصف النصر بأنه إلهي.
في جانب آخر من المشهد السوريالي، نقرأ ما نُسب للشيخ سهيل جنيد عضو مجلس الإفتاء الأعلى ومفتي حمص من تبريرٍ لإلغاء فعالية أوركسترا الموسيقار العالمي مالك الجندلي لتكتمل لدينا الصورة، فالشهداء الذين ” كرامتهم أمانة في أعناقنا ودماؤهم آية من آيات الله لا تُكرّم بالمعازف” حسب رأي الشيخ سهيل، هم ذاتهم كانوا يغنون ويرقصون في هذه الساحات قبل استشهادهم، وهم ذاتهم الذين ألفوا الأغاني ولحّنوها وغنّوها وعزفوا لأجلها. الشيخ حرّ في رأيه، لكنّ الدولة التي هي ملك لكل السوريين والسوريات يجب أن تعرف أنّ الموسيقى والفن ركن من أركان الثقافة، وعنصر عظيمٌ من عناصر الحضارة، فكم من فتوى أو رأي ديني أو موقف سياسي أو حتى حاكم طواهم النسيان، في ما تزال قصائد كثيرة ومسرحيات عديدة ومقطوعات موسيقية ثرّة ولوحات فنيّة جمّة حاضرة في الوجدان الإنساني وستبقى على مدار الأيام؟ هذا مشهد قاتم من اللوحة الكليّة، ونحن نضيء عليه لنقول إنّه لا يمثل الحالة السورية كلها ولا جلّها، وإنّه لا يختصرها بتنوّعها وألوانها وثرائها وجمالها الأخّاذ.
أخيرًا، وقي مشهد غرائبي آخر نقرأ إعلان الإدارة الذاتية في مناطق شمال وشرق سوريا عن قرار منع الاحتفال بذكرى التحرير الأولى وسقوط نظام الأسد يومي 7 و8 من كانون الأول / ديسمبر 2025 بحجّة الأمن. فإذا كانت هذه الإدارة تعتبر ذاتها جزءًا من الحيثية التي عارضت النظام البائد، فلا مبرر لها مع كل ما لديها من قوات عسكرية وأمنية لتتعذّر بحجّة الأمن، أما إن كانت تعتبر الأمر لا يعنيها، أو أنها تلعب بهذه الورقة لتضغط على الحكومة المركزية في دمشق، فإنها تكون كمن يهدر ما له من رصيد شعبي، إن وجد، بأيديها. الفرحة عند كل السوريين غامرة، وكل من يمنعهم من الاحتفال يتحوّل بنظرهم إلى عدّو، أو بأفضل الأحوال إلى مناصر للنظام البائد الذي لا عودة له لأنّ الساقط لا يعود. فأيّ حماقة هذه التي ترفع الحواجز بين السوريين أكثر مما تهدمها؟ بؤس الخطاب الرائج في فضائنا السوري لا يتناسب البتّة وعظمة النصر الذي تحقق، فإما أنّ نغيّر خطابنا أو لنستعدّ للعنة التاريخ.
- تلفزيون سوريا



























