تعاملت دول جوار سوريا مع تحوّلاتها بشكل متفاوت. لكنّها أجادت التموضع بدقّة ووضوح وثبات. بقي لبنان منذ ذلك الحدث قبل عام، منقسماً، متصدّعاً على المستوى الاجتماعيّ السياسيّ، وبدا على المستوى الرسميّ حائراً، مرتبكاً، عاجزاً عن إدارة علاقته بحدث مفصليّ تاريخيّ قلَب موازين القوى الإقليميّة، وغيّر خرائط نفوذ تلك الدولة.
بدت تركيا راعية، مواكبة وداعمة للحدث السوريّ، حتّى ساد اعتقاد أنّها وراء “ردّ العدوان” المنطلق من إدلب وما تلاه، قبل أن تفيدنا المعلومات الأدقّ أنّ أنقرة استفاقت، كما استفاقت عواصم العالم، على تطوّر ميدانيّ مرتجَل حوّل مسار إدلب – حلب باتّجاه دمشق، فراح وزير خارجيّتها حقّان فيدان يتواصل مع العواصم المعنيّة لتفسير ما بات حتميّاً وجعله أقلّ كلفة.
تعاملت دول جوار سوريا مع تحوّلاتها بشكل متفاوت. لكنّها أجادت التموضع بدقّة ووضوح وثبات
ارتباك بغداد وتحرُّك عمّان برشاقة
ارتبكت بغداد بشكل سلبيّ مع “مُصاب” سوريا. سعت إلى التدخّل والتوسّط ونالت من الرئيس السابق بشّار الأسد أوّل موافقة “وآخرها” على مبادرة حلّ كان يرفضها. حين بدا أنّ دمشق على وشك السقوط خرجت تصريحات عراقيّة ناريّة متواكبة مع تحرّك “حشديّ” باتّجاه الحدود. وجّه حينها “أبو محمّد الجولاني” رسالة طمأنة إلى رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني هدّأت من روع بغداد التي “اضطرّت” بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأوّل 2024 إلى أن تستسلم للأمر الواقع وتتعامل معه.
تحرّك الأردن برشاقة وفعّاليّة ونشاط منذ الأيّام الأولى للحدث. استضاف في 14 كانون الأوّل 2024، بعد أيّام من “سقوط” دمشق، مؤتمراً عربيّاً دوليّاً عاجلاً في العقبة أسّست مقرّراته للمواقف العربيّة والدوليّة في مقاربة زوال 54 عاماً من حكم عائلة الأسد. عجّلت عمّان بعدئذٍ في تعزيز علاقاتها مع “دمشق الجديدة” مساهمةً في دور مركزيّ في التعامل مع أزمة السويداء.
ما يزال لبنان وحده في “آخر الطابور”. طبقته السياسيّة غارقة في أمراضها الطائفيّة وعِقدها الوجوديّة وحسابات مصالحها
لبنان آخر الطّابور
ما يزال لبنان وحده في “آخر الطابور”. طبقته السياسيّة غارقة في أمراضها وعِقدها الوجوديّة وحسابات مصالحها ودوام نفوذها من بوّابة خسائر وأرباح التحوّل السوريّ. لا عجب في الأمر، ذلك أنّ المعارضين لنظام الأسد البائد والمنكوبين بزواله عاشوا سيرتهم جميعاً وفق برمجة وجود نظام الأسدين. لا ريب أنّهم واجهوا بنيويّاً زوال نسخة ودخول تحديثات جديدة على نظام دمشق لم تفقهها عقليّات مراكز الطوائف وزعاماتها باستثناء وليد جنبلاط ونواف سلام.
سيكون منطقيّاً أن يتصرّف “الثنائيّ الشيعيّ”، لا سيما “الحزب” وبيئته، وفق حالة “النكبة” الجديدة التي يسبّبها موت نظام حليف دفعت “الطائفة” الغالي والنفيس من حيوات شيعيّة للدفاع عنه وعن زعيمه. سيكون منطقيّاً أن تشعر بتحقيق نصرٍ “السنّيّةُ السياسيّة”، بنسخها التي كانت معادية لنظام قتل علماءها وسياسيّيها وزعيمها رفيق الحريري وهمّش نفوذها داخل نظام ما بعد “الطائف”.
يعتبر مسيحيّو “القوّات اللبنانيّة” أنّ الحدث السوريّ انتصار للبنان، مثنين على زعامة “الرفيق” أحمد الشرع، على حدّ وصف الناطق باسمهم. في الموقف انسجامٌ مفهومٌ مع حالة العداء التقليديّة مع نظام الأسد وحروبه ضدّ “القوّات” وبيئتها. سيكون مفهوماً أن يتّخذ الزعيم الشماليّ سليمان فرنجيّة موقفاً مرتاباً بعدما فقد “صديقاً” في دمشق، وأن يُصاب “التيّار العونيّ” بنكسة جديدة أصابت عقائده “المشرقيّة” وأطروحاته عن “حلف الأقلّيّات”. غير أنّ موقف “الكتائب” وزعيمها يطرح أسئلة بشأن ما يشبه “صفعة” محيّرة يصعب استيعاب صداها، فيما موقف البطريركيّة متحفّظ مرتاب يميل إلى امتعاض.
أداء مستفزّ
بغضّ النظر عن حقيقة عجز لبنان، بسبب الوصايات التي تعاقبت على ضبط قراراته، عن اختراع قدرة على استرداد سيادته واستقلاله ونضج سياسته، أظهرت بيروت أداءً واهناً مستفزّاً في مقاربة تحوُّل يُفترض أنّه يصبّ في مصلحة استقلال تامّ، بعدما وعد الرئيس أحمد الشرع بعدم التدخّل في شؤون لبنان على نحو لا يشبه سلوكاً تقليديّاً انتهجته كلّ الأنظمة التي حكمت سوريا منذ الاستقلال، بما فيها الأنظمة ما قبل البعثيّة. بدا أنّ إقدام دولة لبنان تجاه سوريا انتقائيّ متمهّل، مائل إلى الإعراض والانكفاء، يختلف بين رئاسة حكومة وجمهوريّة، ويتباين بين وزير ووزير.
يفضح تلكّؤ لبنان في حلّ ملفّ المعتقلين السوريّين في السجون اللبنانيّة جانباً من ذلك الحال. تسرّب أنّ بيروت في عهد بشّار الأسد كانت متعاونة مع دمشق، وقيل إنّها سلّمتها معارضين له أو زجّتهم في سجونها من دون محاكمة. بالمقابل اكتشفت دولة لبنان أصول القوانين والمعاهدات الدوليّة في عهد الشرع في دمشق، وتبرّعت بإعطاء الوفود السوريّة محاضرات في علوم القضاء وأصول المحاكمات، وبرعت في فرض فولكلور لبنانيّ تتغيّر مواويله بين وعود رئيس الحكومة ونائبه وفتاوى وزير العدل الطامح إلى الكشف عن جرائم ارتُكبت في حرب أهليّة في لبنان طوى ملفّاتها “الطائف” ونظام طوائف.
يستدرج لبنان سوريا الجديدة إلى ما لا تريده. تعرف بيروت أنّ ملفّ المعتقلين محرِج وضاغط على الشرع وحكومته، وأنّ أهالي المعتقلين عاتبون على “ردّ العدوان” عجزه عن ردّ أبنائهم من سجون لبنان. بدا أنّ صبر دمشق كصبر الواحد على أخيه، وأنّ ما يسرّبه الإعلام عن احتمالات فرض عقوبات دمشقيّة تشمل إقفال الحدود بين البلدين ليس من شيَم النظام الجديد ورئيسه. غير أنّ في بيروت من لا يجيد علم الحساب، ويمنّي النفس بعودة أجواء “عداء” بين لبنان وسوريا تعيد التوازن إلى طبقة سياسيّة متهالكة تقتات من سيرة الولاء الأعمى لدمشق أو العيش على مناكفتها.
- أساس ميديا



























