القاهرة: بينما تسعى العديد من الأطراف الدولية لتثبيت دعائم النظام الجديد في سوريا بشتى الطرق لأهداف بعضها معلوم والآخر خفي، جاء الهجوم الذي وقع في مدينة تدمر، وسط البلاد، ليعكس بوضوح هشاشة الوضع هناك، وكيف تحولت سوريا إلى فسيفساء من مناطق النفوذ التي تتصادم فيها مصالح دولية كبرى، وكأن أرضها باتت رقعة شطرنج كبيرة يتبارى فوقها لاعبون كثر.
فالهجوم الذي وجّهت الولايات المتحدة أصابع الاتهام فيه لتنظيم داعش، وسط تهديد بـ”رد ساحق”، يطرح من جديد مسألة سيادة الدولة واستباحة أراضيها، كما أنه يفرض تساؤلًا بشأن المنفذ الحقيقي للهجوم، لا سيما وأن داعش لم يعلن مسؤوليته عنه، في ظل فرضيات عن أن منفذه ربما ينتمي لفصائل موالية لإيران، بهدف الضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا.
وركّزت شبكة “إيه بي سي” الأمريكية على أن هذا هو أول سقوط لقتلى أمريكيين في أعمال قتالية منذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مستشهدة برد فعل الرئيس الأمريكي على الهجوم، الذي أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين بينهم عسكريان وإصابة آخرين.
فترامب تحدّث عن مدى غضب الرئيس السوري أحمد الشرع من الهجوم، ولم تفته الإشارة إلى أنه وقع “في منطقة شديدة الخطورة من سوريا، لا تخضع لسيطرتهم الكاملة”.
ووفقًا لـ “إيه بي سي”، فهذا هو الهجوم الأكثر دموية ضد الأمريكيين في سوريا منذ عام 2019، عندما قُتل أربعة منهم في هجوم انتحاري في مدينة منبج بشمال البلاد.
وأشارت الشبكة إلى أنه “قبل يوم السبت، كان هناك 10 قتلى من الجيش الأمريكي في سوريا، بما في ذلك مزيج من القتلى في عمليات عدائية وغير عدائية. وسقط آخر قتيل من الجيش الأمريكي في سوريا في عملية غير عدائية في فبراير (شباط) 2022”.
من جهتها، لفتت صحيفة “الغارديان” البريطانية إلى أن الهجوم على القوات الأمريكية في تدمر هو الأول الذي يسفر عن سقوط ضحايا، منذ الإطاحة بنظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، قبل عام.
وبينما لا يزال الغموض يكتنف هوية منفذ هجوم تدمر، حيث أعلنت السلطات السورية أنها تحقق في ما إذا كان ينتمي لتنظيم داعش، أم أنه كان يحمل فقط أيديولوجيته المتطرفة، نفت وزارة الداخلية السورية تقريرًا صادرًا عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يتخذ من بريطانيا مقرًا له، يتحدث عن أن المهاجم هو أحد أفراد الأمن السوري.
وازداد الغموض مع إعلان المتحدث باسم الداخلية السورية، في تصريحات تلفزيونية، عن تحذيرات مسبقة من جانب قيادة الأمن الداخلي في منطقة البادية من احتمال حدوث اختراق أو هجمات متوقعة لداعش، بينما نقلت عنه شبكة “سي إن إن” الإخبارية أن المهاجم “كان معروفًا للسلطات قبل الهجوم الدموي”.
وتنشر الولايات المتحدة مئات الجنود في شرق سوريا كجزء من التحالف الدولي لمحاربة داعش، والذي انضمت إليه سوريا الشهر الماضي.
وحتى شهر أبريل/نيسان الماضي، كان لدى الولايات المتحدة حوالي 2000 جندي متمركزين في سوريا للمشاركة في مهام استشارية وتدريبية والمساعدة على مكافحة داعش، وفقًا لصحيفة “بوليتيكو” الأمريكية.
ويرى كثيرون أن هجوم تدمر يمثل علامة استفهام كبيرة بشأن طبيعة الهدف، لا سيما أن استهداف الأمريكيين جاء في الوقت الذي تتواصل فيه التوغلات العسكرية الإسرائيلية في جنوب سوريا بصورة يرى الكثير من السوريين فيها احتلالًا لأراضيهم.
وتروّج إسرائيل لرواية أنها تستهدف من وراء ذلك قطع طرق الإمداد الإيرانية وتأمين حدود الجولان، لكن مراقبين يرون أن ذلك يجعل الجنوب السوري منطقة نفوذ إسرائيلية مباشرة بعيدًا عن سيادة الدولة السورية.
وربما تكتمل الصورة إذا ما انضمّت إليها مساعي تركيا لفرض هيمنتها على مدن الشمال السوري بدعوى قطع الطريق على الأكراد ووأد حلمهم في إقامة دولة لهم، حيث تعتبر أنقرة أن “وحدات حماية الشعب الكردية” امتداد لـ “حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنّفه منظمة إرهابية لديها، وتخشى من أن يشكّلوا معًا تهديدًا مباشرًا لأمنها واستقرارها على الحدود. وتقول تركيا إنها تعمل على إنشاء “منطقة خالية من الإرهاب”، عبر دمج الأكراد السوريين ضمن هياكل الدولة السورية كجزء من حل سياسي.
وفي ظل أحداث طائفية تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى وتهدد بتمزيق النسيج الوطني السوري، ووسط المآرب المختلفة لقوى دولية وإقليمية كبرى، يساور الكثير من السوريين القلق بشأن مصير بلدهم، وتزداد المخاوف من أن يكون ما يحدث حاليًا هو عبارة عن تقسيم غير معلن للبلاد.
(د ب أ)
- القدس العربي

























