
بعد مرور عام على سقوط الأسد ونظامه، تجد سورية نفسها، وهي تتلمّس خطواتها الأولى نحو المستقبل، حالها حال دول عديدة تعرّضت عبر التاريخ لهزّات اجتماعية عنيفة (ثورات، حروب أهلية، أو سقوط نظم حكم مركزية)، على مفترق طرق. يقود الأول، الذي نأمل تجنّبه، إلى التفكك، والانهيار، ومزيد من الصراعات، كما حصل في الصومال، بعد سقوط نظام سياد برّي (1991)، وليبيا بعد سقوط نظام القذافي (2011)، ويوغسلافيا التي تصدّعت بعد انهيار النظام الشيوعي (1990). الطريق الثاني، الذي نرجوه، هو طريق إعادة بناء الدولة، وتحقيق الاستقرار، والسلم المجتمعي، الذي سلكته دول عديدة مثل رواندا (1990-1994) وموزمبيق (1977-1992) بعد حربيهما الأهليتين، فضلا عن تجربة التحول الديمقراطي الجديرة بالاهتمام في ليبيريا، والتي جاءت بعد حربين أهليتين (1989-1997 و1999-2003).
لا تحاول هذه المقالة أن تقارن هنا بين سورية، التي دفعت تكلفة موقعها الجغرافي الفريد، وما تزال، بالدول الثلاث الأخيرة، لكن ليس من المحتم أيضاً أن تسلك سورية طريق الدول الثلاث الأولى، إذا امتلكت قيادتها الجديدة رؤية واضحة للمستقبل، وعرفت كيف تغتنم الفرص، وتتعامل مع المخاطر والتحدّيات التي تواجهها، وهي ليست قليلة. لا شك أن تكلفة دحر الاستبداد في سورية كانت باهظة، إذ استغرقت الوقت الأطول لإسقاط النظام (14 سنة تقريباً) مقارنة ببقية دول ثورات الربيع العربي التي انهارت أنظمتها أو رأس النظام فيها: مصر أخذت 18 يوما (25 يناير- 11 فبراير)؛ تونس 29 يوما (17 ديسمبر- 14 يناير)؛ ليبيا ثمانية أشهر (17 فبراير- 20 أكتوبر) اليمن 13 شهرا (يناير 2011- فبراير 2012). التكلفة البشرية والمادية في سورية كانت الأكبر أيضاً. يعود السبب في ذلك كله، طبعا، إلى التدخّلات الخارجية التي عكست، وما تزال، أهمية موقع سورية، وثقلها في موازين القوى الإقليمية، كما عمق انقساماتها الداخلية. لكن، وللمفارقة، ما أن سقط نظام الأسد حتى تشكل إجماع دولي وإقليمي نادر (لا تشذ عنه سوى إسرائيل) على ضرورة مساعدة سورية على تحقيق الاستقرار وتجنّب الفوضى، بدليل أن هيئة تحرير الشام، الجماعة الحاكمة في سورية اليوم، هي التنظيم الجهادي الوحيد الذي تم رفعه اسمه (أميركيّاً وأوروبيّاً) من قائمة التنظيمات الإرهابية (وهذه سابقة). كما لم يحصل أن رُفعت العقوبات الأميركية بكليتها تقريبًا عن بلد بالسرعة التي حصلت في سورية (لاحظ مثلا أن الأمم المتحدة لم تنه برنامج النفط مقابل الغذاء إلا بعد سبع سنوات من الغزو الأميركي للعراق).
يعد جدل علاقة الفرد بالبنية (Agency-Structure Debate) من النقاشات الكبرى في تاريخ الفكر الإنساني، ويدور بشكل رئيس حول دور كل من الفرد والسياقات المحيطة في صنع التاريخ. الواضح أن السياقات تبدو مواتية لإعادة بناء سورية، واستعادة دورها العربي، وأن الأمر يتوقف حالياً على نوعية القيادة المتوفرة للاستفادة من هذا الظرف التاريخي، والإجماع النادر المتشكل حول سورية. يجري التعبير عن هذه الفكرة في تراثنا العربي- الإسلامي بالمقولة الشهيرة “رُبَّ هِمّة أحيت أمة”.
بحسب دراسات عديدة، تتعاظم القدرات المحتملة للدولة التي نجحت في إسقاط النظام القديم إذا هي نجحت في تحقيق الاستقرار الداخلي بعد الثورة، فالدولة الثورية تملك عادة قدرات أكبر، ويمكنها حشد موارد أكثر مما كانت تستطيعه في ظل النظام القديم. ويتيح حشد طاقات الأمة، وحماسة نخبة الحكم الجديدة للعمل، وتفعيل أجهزة الدولة وتنشيطها، وإحياء الروح الثورية المشتركة للأمة، لأنظمة ما بعد الثورة ممارسة درجة أكبر من الضبط والسيطرة والإنجاز. هذا يسهّل تجنيد جيوش أكبر واستخراج موارد أكثر. هذا ما حصل في إنكلترا بعد ثورة البرلمان الطويل (1642 – 1649) وفي فرنسا بعد ثورة 1789، وفي روسيا بعد ثورة 1917. يثير هذا الوضع، عادة، قلق الدول المجاورة ويقودها أحيانا إلى التحرّك على نحو استباقي لمهاجمة الدولة الثورية قبل أن تستقر الأوضاع فيها. هذا ما دفع العراق لمهاجمة إيران في سبتمبر/ أيلول 1980، وما يدفع إسرائيل حاليا إلى مهاجمة سورية ومحاولة تفكيكها، قبل أن تنجح في إعادة بناء قوتها.
خلاصة القول، أمام سورية فرصة ذهبية للنهوض واستعادة ذاتها، وهذا يرتب مسؤولية كبيرة على قيادتها الحالية، لأن سلوك طريق الانهيار أو الصعود يصبح خياراً مرتبطاً بالنهج والرؤية التي تتبنّاها، وليس بإكراهات الظروف. هل هناك رؤية للنهوض؟ واذا كان ثمّة رؤية فما هي؟ هذا هو السؤال الذي سيحدّد مصير سورية، ليس بعيداً، بل في المدى المنظور حتماً.
- العربي الجديد
























