أحيا السوريون الذكرى السنوية الأولى للإطاحة بنظام الدكتاتور بشار الأسد باحتفالات شعبية عكست أولاً حالة من الرضى عند جزء كبير من السوريين عن وضع بلادهم بعد عام من رحيل “الأسد”، وأعطت ثانياً تصوراً عن مستوى رضى الشارع السوري عن الحكم الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي أنجز أموراً بدت مُستحيلة عند دخوله دمشق للمرة الأولى رغم أن ما أُنجز لم يكن مثالياً تماماً ولم يخلُ أيضاً من المشكلات الجديدة والخطيرة التي ظهرت.
غير أن محصلة عام من إنجازات وتعثّر وإخفاقات ليست سوى بداية طويلة أمام سوريا، فبناء دولة جديدة، والحفاظ على وحدتها الجغرافية والسياسية في وجه مشاريع الانفصال والتقسيم، والتخلّص التدريجي من إرث النظام السابق بكل أثقاله، وإعادة ترميم النسيج الوطني، والاستجابة لمتطلبات المجتمع الدولي المتعددة، كلّها مهام تُشكل مُجتمعة قالباً متكاملاً من التحديات.
هذه الأطماع لا تقتصر على الجنوب السوري وعلى تغذية النزعات الانفصالية بل أصبحت حلقة مركزية في سلسلة أوسع من المشاريع التي تهدف إلى تمزيق سوريا..
إنّ تزامن ذكرى التحرير مع تصعيد إسرائيل لاعتداءاتها وتوغّلاتها في سوريا يُشكّل تذكيراً قاسياً للسوريين بأنّ الخطر الأكبر على وحدة البلاد بعد سقوط “الأسد” لم يعد داخلياً فقط، بل بات يتمثل بشكل واضح في الأطماع الإسرائيلية التوسعية المُعلنة والمُمَنهجة.
وهذه الأطماع لا تقتصر على الجنوب السوري وعلى تغذية النزعات الانفصالية بل أصبحت حلقة مركزية في سلسلة أوسع من المشاريع التي تهدف إلى تمزيق سوريا وعكس مسارها الجديد بعد التحول.
وكما كان الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر ذكرى لرحيل “الأسد”، فإنّه ذكرى أيضاً لاحتلال إسرائيل أراضي جديدة من سوريا وتدمير ما تبقى من أصول عسكرية لها وتأجيجها للأزمة بين الدروز والدولة.
سيكون التحدّي الإسرائيلي من بين الاستحقاقات التي يُتوقع أن تطرأ عليه تحوّلات كبيرة في العام الثاني لـ”سوريا بدون الأسد”، وهو ما تسعى له الولايات المتحدة من خلال الضغط على البلدين لإبرام اتفاقية أمنية كبداية لاتفاقيات أخرى محتملة ستُعيد تشكيل علاقة سوريا بإسرائيل على نحو مُختلف تماماً مما عرفته في السابق.
تُعدّ التحرّكات المنتظرة للمسار السوري الإسرائيلي حاسمة لسوريا ليس فقط على صعيد التعامل مع التهديد الذي تُشكله إسرائيل لها في مرحلة ما بعد التحول، بل كذلك على صعيد التعامل مع تحديات داخلية تتأثر بشكل مباشر بالتدخل الإسرائيلي وتتمثل على وجه خاص بالسويداء.
إنّ الافتراض السائد أن التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل سيؤدي تلقائياً إلى معالجة ملف السويداء وأن عدم التوصل لاتفاق سيفتح الباب أمام مزيد من التصعيد الإسرائيلي في سوريا ومزيد من الأعراض الداخلية لهذا التصعيد، ويبدو هذا الافتراض واقعياً.
مع ذلك، فإن الآثار العميقة التي تركتها أحداث السويداء ستستغرق فترة طويلة كي تُعالج وتتطلب الكثير من المبادرات بين الدولة والدروز، لكنّ ذلك غير مُمكن على أية حال قبل أن توقف إسرائيل تدخّلها في ملف السويداء وقبل أن يتخلى الهجري عن الرهان على إسرائيل.
يبرز ملف “قسد” أيضاً كأحد الملفات الداهمة التي تواجه سوريا في العام الثاني من التحول خصوصاً مع انتهاء مُهلة تنفيذ اتفاقية الاندماج نهاية العام الجاري من دون تحقيق أي تقدم فيها مما يُنذر باحتمالات تصعيد عسكري.
وعلى الرغم من أن “قسد” لم تُظهر إلى الآن أية مؤشرات جدّية على رغبتها في تنفيذ الاتفاقية حتى مع احتمال تمديد مُهلة تنفيذها لفترة إضافية، إلاّ أن الدفع باتجاه تسوية سياسية ما يزال أفضل الخيارات المطروحة بالنسبة لدمشق والفاعلين الآخرين المؤثرين في هذه القضية كتركيا والولايات المتحدة.
لكنّ أي مُهلة جديدة لتنفيذ اتفاقية الاندماج ينبغي أن تتضمن خارطة طريق واضحة وآليات مُتفق عليها لتحقيق الاندماج.
يُظهر كل من الرئيسين أحمد الشرع ورجب طيب أردوغان قدراً كبيراً من المسؤولية والواقعية في التركيز على الدبلوماسية في التعامل مع “قسد”، لكنّ هذه الدبلوماسية مُصممة لخدمة غرض واحد فقط وهو دمج “قسد” في الدولة، وعندما تفشل في تحقيق غرضها، فإن وسائل أخرى ستَظهر على الطاولة.
وإلى جانب “قسد” والسويداء، فإن الوضع في الساحل السوري لم يستقر تماماً بعد، والاحتجاجات الأخيرة وعناوين الفدرالية التي طرحها رئيس المجلس العلوي الشيخ غزال غزال تُظهر أن المخاطر ما تزال قائمة وأن محاولات خلق واقع في الساحل شبيهاً بواقع السويداء وقسد لم تنتهي تماماً.
كان من المخطط أن يُفرَض هذا الواقع في الساحل خلال تمرّد فلول النظام السابق في مارس/آذار 2025، لكن الدولة نجحت حينها في إفشال المخطط.
فإن هذا التقدم لم يترجم بعد إلى قدرة كافية على التعامل مع التحديات المُختلفة التي تستمد زخمها من التدخل الإسرائيلي..
ورغم ارتباط ملف الساحل بملفي “قسد” والسويداء، إلاّ أن خصوصياته تفرض أنماطاً مُختلفة من المعالجات التي لم تَظهر حتى الآن، وعلى رأسها ملف العدالة الانتقالية الذي يُشكل المدخل الوحيد للمصالحة المجتمعية والشروع في إزالة إرث الصراع على العلاقة بين مُختلف المكونات السورية وإعادة ترميم النسيج الوطني.
رغم الإنجازات الكبيرة التي حققتها سوريا خلال عام واحد فقط -من تثبيت السلطة الجديدة، وكسر العزلة الدولية، وإعادة بناء علاقات متوازنة مع محيطها العربي والإقليمي والدولي- فإن هذا التقدم لم يترجم بعد إلى قدرة كافية على التعامل مع التحديات المُختلفة التي تستمد زخمها من التدخل الإسرائيلي.
سيحتاج الرئيس أحمد الشرع خلال الفترة المقبلة إلى مبادرات داخلية أكثر جرأة في ترميم النسيج الوطني، لكن الحفاظ على وحدة سوريا وسلامتها وتماسكها المجتمعي ينبغي أن يبقى المُحدد الرئيسي لكل السياسات والمبادرات. من غير المتصور أن يحمل العام الجديد لسوريا وصفة سحرية لكل هذه المشكلات، لكن الفرصة المتاحة أمامها للتعامل بفعالية مع هذه التحديات تتزايد مع مرور الوقت.
- تلفزيون سوريا
























