ملخص
لا اللبنانيون يقبلون ضم لبنان إلى سوريا، ولا حلم آل الأسد في عدم الخروج من لبنان بعد دخوله عسكرياً خلال الحرب تحقق، إذ أجبرت أميركا وفرنسا بشار الأسد على سحب جيشه من لبنان بعدما تبدلت الظروف والحسابات.
خرائط الشرق الأوسط تبدو على المشرحة لا فقط على طاولة المفاوضات، وليس جديداً أن تزدهر سيناريوهات “الفرز والضم” في أيام الأزمات العميقة والتسويات العقيمة. وبعض هذه السيناريوهات لها مقدمات عسكرية على الأرض، وبعضها الآخر نظري مشغول في غرف التخطيط، أو فضاءات الخيال، من تقسيم سوريا إلى ضم لبنان إلى سوريا، ومن توزيع شمال لبنان وشرقه على سوريا وجنوبه على إسرائيل إلى الفصل الكامل بين غزة والضفة الغربية ثم ضمهما إلى “إسرائيل الكبرى” أو إقامة دولة فلسطينية عليهما، ومن استعادة مشروع السيناتور جو بايدن، قبل أن يصبح رئيساً، لتقسيم العراق إلى ثلاث دول كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب إلى تحقيق طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان و”العثمانية الجديدة” لضم حلب السورية والموصل العراقية إلى تركيا.
ومن سيناريو تقسيم السودان المنتظم في حرب الجنرالات وداعميهم بعد استقلال الجنوب عنه إلى سيناريو استقلال كل من فزان وبرقة وطرابلس كما كانت الحال قبل توحيد ليبيا وسيناريو استعادة جنوب اليمن دولته قبل الوحدة مع الشمال.
والمفارقة أن السفير الأميركي لدى تركيا والموفد إلى سوريا ولبنان “الزحلاوي” الأصل توم براك هو الذي يكرر الحديث عن ضم لبنان إلى سوريا أو ما يسميه “إلحاقه ببلاد الشام”، فالرجل مشغول بأمور كثيرة في تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل لا يعرف عمقها وتعقيداتها من عمله کرجل أعمال ومحامٍ ومشاركته الرئيس دونالد ترمب لعبة الغولف، وهو يبدو كمن ينطبق عليه المثل القائل “يهرف بما لا يعرف”. فلا اللبنانيون يقبلون ضم لبنان إلى سوريا، ولا حلم آل الأسد في عدم الخروج من لبنان بعد دخوله عسكرياً خلال الحرب تحقق، إذ أجبرت أميركا وفرنسا بشار الأسد على سحب جيشه من لبنان بعدما تبدلت الظروف والحسابات التي دعت أميركا إلى الاتفاق مع الرئيس حافظ الأسد وترتيب تفاهم “الخطوط الحمر” بين سوريا وإسرائيل قبل دخول لبنان.
ولا أميركا التي ورثت بريطانيا وفرنسا ونفوذهما في المنطقة بعد حرب السويس أقدمت على تغيير خرائط “سايكس بيكو” البريطانية- الفرنسية التي فصّلت من ثوب الولايات العثمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولى سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين ورسمت حدودها. ولا القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية التي تقاسمت أوروبا في يالطا وبوتسدام بين ستالين وتشرشل وروزفلت ثم خليفته ترومان خلخلت حدود “سايكس بيكو” مع إعطاء الاستقلال للدول وترك مكان محفوظ على الخريطة لإسرائيل عبر “وعد بلفور” ثم قرار التقسيم عام 1947.
والواقع أن سوريا بعد 14 عاماً من حرب مدمرة انضم إليها الجميع هي اليوم في حال تقسيم، والمهمة الملحة هي إعادة توحيدها. ولبنان منقسم بعمق أكثر مما كان عليه، لكنه موحد ضمن دولة في حدود “لبنان الكبير” بصرف النظر عن الآراء في النظام. وليس من السهل إعادة توحيد سوريا تحت راية “هيئة تحرير الشام” وحدها لأن التحدي أمام الرئيس أحمد الشرع هو إشراك السوريين جميعاً في المسؤولية على حل قضايا الكرد والعلويين والدروز والمسيحيين والأكثرية السنية غير السلفية لاستعادة وحدة سوريا. وليس من الصعب إيجاد تسوية للانقسام في لبنان وضمان حصرية السلاح بيد الدولة القوية العادلة القائمة على المواطنة والوطنية. ومن الوهم أن تستمر إسرائيل في احتلال جنوب لبنان وجنوب سوريا.
والوهم الأكبر هو فك حدود الدولة الوطنية لأن بدء فك الحدود يقود إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، ولا أحد يعرف أين يتوقف التقسيم الذي يبدأ من لبنان أو سوريا ويمتد إلى العراق ومحيطه وصولاً إلى تركيا نفسها ثم إلى إيران.
وليس أمراً قليل الدلالات أن ينتقل العالم العربي من رفض “سايكس بيكو” على مدى قرن إلى التمسك به والخوف عليه مما يسمى “تقسيم المقسم”، فالدول المسماة قطرية تجذرت وصارت لكل منها هوية خاصة ولو استمر الحفاظ على الهوية الأوسع. ودعوات الوحدة لم تصل إلى شيء عملي، فلا البعث الذي حكم العراق وسوريا حقق الوحدة بين البلدين، وعلى العكس فإن ما رافق مسارهما هو الخصومة العنيفة وحتى العداء. ولا الوحدة بين مصر وسوريا برئاسة جمال عبدالناصر دامت أكثر من ثلاثة أعوام قبل أن تسقط بفعل قوى داخلية وتوجس أميركي من أية وحدة في الشرق الأوسط.
والسؤال هو، هل كان “سايكس بيكو” عصياً على التغيير أم أن القوى التي رفعت شعار “ثورة بلا حدود” عاشت على الأحلام أكثر من الواقع؟ والجواب الذي تقدمه الوقائع يكشف عن الحقيقة، العجز عن تغيير الحدود أو الثبات على أي تغيير يشمل دعاة الوحدة العربية ودعاة الوحدة السورية ودعاة الأممية الإسلامية، والعجز عن تقديم نموذج جذاب في الداخل تحت الأنظمة الرافعة راية الوحدة العربية كان كبيراً.
حتى القراءات العميقة والدقيقة في المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج، فإنها كانت نادرة مقابل أطنان الخطابات وكتب الإنشاء العربي. وما تعانيه البلدان اليوم من صراعات وانقسامات وهويات طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية ليس جديداً، بل كان تحت البساط بسبب قمع الأنظمة وغياب الديمقراطية والتعبير عن المطالب المحقة. وأقل ما يكتشفه الجميع بعد قرن من اعتبار قضية فلسطين القضية المركزية للعرب أن التحديات والقضايا المهمة أمام العرب جميعاً يصعب اختصارها بالصراع مع إسرائيل من دون الصراعات المحلية والإقليمية والدولية الأخرى. وأحدثها الصراع على المشروع الإقليمي الإيراني، ولعنة “سايكس بيكو” والعجز عن التغيير مستمر.
- إندبندنت






















