قبل فترة وجيزة، نشر أحد الزملاء من الكتّاب الصحفيين قصةً عن مريضٍ قاده القدر الأحمق إلى مشفى تشرين العسكري، في وقت ما قبل عام 2000، من أجل إجراء عملية عينية بسيطة، وحين انتهى من ذلك، وبينما كانت الضمادات تجعل المشهد أمامه أسود، همس له الممرض مفتخراً بأن من قام بإجراء العملية هو “الدكتور” بشار الأسد، وكانت النتيجة أن المريض أُصيب بعطبٍ دائم نتيجة أخطاء وقع فيها من أجرى العملية!
تذكرت القصة فور قراءة التقرير الذي نشرته الغارديان عن أن الدكتور بشار، أي الديكتاتور الهارب، وبعد سنوات من حكم الدم والخراب، قرر أن يعود إلى مقاعد الدراسة ليدرس طب العيون، ويعيد “اكتشاف شغفه القديم”، بدلًا من أن يقضي وقته في موسكو في حلب الكلمات من ضروع الكلمات، كما كان يفعل في مقابلاته الصحفية واجتماعاته مع مسؤوليه ووزرائه!
على الورق، قد يبدو هذا كقصةٍ عن رجلٍ هرب من السلطة ليبدأ من جديد، لكن في الحقيقة، المشهد فنتازي وسخريته سوداء، لا يمكن استظرافه بأي حال من الأحوال.
موسكو، بحسب التقارير، توفر لبشار الأسد مأوى راقياً نسبياً بعيداً عن الأنظار الدولية. فهو يعيش مع عائلته في حي معزول مؤمن بحراسة استثنائية.
لكن العاصمة الروسية ليست سوى ملاذٍ فارغ، إذ يمكنه أن يبقى هناك حتى يقرر بوتين التصرف معه. أي أن المتاح له محدد افتراضياً بين النظر من النافذة إلى المدينة والثلج، وأن يمارس التجوال مع خادميه منصور عزام ويسار إبراهيم في شوارعها!
قاتل معروف عالمياً بجرائمه، ولا يمكن لبياض الثلج الروسي أن يخفي قتامة تاريخه، ولا يستطيع أن يعيد تدوير حياته وفق رغباته!
التقارير التي تفيد بأنه يدرس طب العيون، أو يتابع التعلم النظري، تحمل بذاتها نوابض الاستغراب منها. فكرة أن القاتل الجماعي يعود إلى دراسة مهنة شفاء البشر، هي تناقض صارخ.
الطب، بطبيعته، ليس مجرد مهارة تقنية، بل التزام أخلاقي عميق تجاه حياة الإنسان وكرامته. الطبيب ملتزم بقسم أبقراط، وعليه أن يصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلاً وسعه في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن يحفظ للناس كرامتهم.
وهو، أي الطبيب، بقسم أو بدون قسم، يُفترض أن يكون حساساً للألم، مسؤولاً عن رفاهية المرضى، وأميناً على حياتهم. لكن رأس نظام البراميل، الطبيب الافتراضي، لم يقتل فقط، بل أمر بتنفيذ أبشع الجرائم: الأسلحة الكيماوية، التجويع، التعذيب المنهجي، وهدم المدن.
في هذا السياق، أي محاولة للعودة إلى الدراسة، مهما كانت بدافع الفضول أو التسلية، تصبح رمزاً لانفصال أخلاقي مفضوح. إنها ليست عودة إلى المهنة، بل محاولة لتجميل صورة الطاغية في الخيال الإعلامي، بينما الواقع يصر على أن أي مهنة قائمة على الثقة والرحمة لا يمكن ممارستها من قبل قاتل جماعي.
ولكن هل يمكن للطبيب الفاشل، وبغض النظر عن ماضيه الدموي، أن يعود للمهنة في روسيا؟ الواقع العملي صارم. موسكو لن تمنح ترخيص ممارسة الطب لطاغية هارب. فهذه، ومن الناحية الإجرائية، تحتاج إلى امتحانات معادلة، وشهادات رسمية، والتزامات قانونية صارمة تجعل من أي ممارسة فعلية للطب مستحيلة.
والأكثر من ذلك، أن المصداقية الأخلاقية مفقودة بالكامل، ولا يُتوقع أن يذهب أي روسي عاقل إلى طبيب معروف بسجله الدموي، ليسلم عينيه أو حياته لعلاج على يديه.
وبالتالي، حتى لو افترضنا، وضمن سيناريو خيالي، أن بشار تمكن من الحصول على الشهادة، فإنه كطاغية سيحتاج إلى جمهور مرضى لا يعرفه، ولا يدري بتاريخه الدموي في سوريا، وأين سيجد مثل هذا؟ بعد أن صارت شهرته كقاتل معروفة في مشارق الأرض ومغاربها!
ربما في قرية بعيدة عن أعين العالم، في سيبيريا مثلاً، سيتمكن من فتح عيادة صغيرة. لكن حتى في قرية مجهولة، هناك مشكلة أساسية: ملامح الوجه، والسلوكيات، والثقة المفرطة بالهراء، قد تنقل التاريخ الدموي للجلاد.
وعليه فإن أي مريض حقيقي، أو حتى الطفل أو الشيخ، سيشعران بالخطر، حتى ولو لم يعرفا التفاصيل. الطب هنا يصبح مستحيلًا عمليًا، ويظل مجرد “خيال ترفيهي” للطاغية في مأوى بعيد.
هنا تتضح السخرية الرمزية: الطاغية الذي اختار القتل والتدمير، يُفترض أن يعالج العيون ويهتم بالحياة. في عالم الوهم، يمكن لهذه العودة أن تكون ممكنة، لكن في عالم الواقع، المهنة الإنسانية لا تُمارس إلا على قاعدة أخلاقية صارمة، وهذه القاعدة لا يمكن لأي قاتل أن يستعيدها بمجرد تغيير عنوانه أو مكانه.
كل هذا، محاولة رمزية لتأجيل مواجهة التاريخ. الطاغية الذي عاش سنوات من الدم والدمار لا يستطيع محو أثره بالكتب أو المحاضرات، ولا بإعادة ترتيب أدواته الطبية. الخيال الذي يراوده – أن يصبح طبيبًا مرة أخرى – يكشف أكثر من أي تحليل سياسي: أنه لا يزال أسيرًا لعالمه الخاص، حيث تتقاطع السلطة والقتل مع الطموحات الشخصية، حتى وإن كانت مستحيلة.
تسريبات الفيديو الأخيرة التي نشرتها قناة العربية، والتي كشفت عن فضائح بشار ولونا الشبل، عجّلت بهذه الأخبار عن القطيعة النهائية مع سوريا. إنها رد الفعل المتوقع من شخصية خرقاء على فضائح الماضي، لكنها، من جهة أخرى، تأكيد لكل من خدم العائلة الأسدية أنهم لم يكونوا سوى أدوات استعمالية تُترك في مكانها.
ويبقى السؤال الحقيقي معلقاً: هل يمكن للقاتل أن يخفف عبء جرائمه السابقة عبر تغيير المهنة أو استعادة أخرى منسية، لم يعرف منها شيئًا سوى الاعتياد على الدماء؟
- الثورة السورية






















