خلال الفترة الأخيرة، ومع تعثّر الأساليب التقليدية في الطعن بالدولة السورية الجديدة، أو في شيطنة المجتمع السوري بشكل مباشر، بدأت تتكاثر مقاربات مختلفة، أكثر لؤماً، في الخطاب العام المتعلق بسوريا. وهذه المرّة، لم تعد الهجمة تأخذ شكل التخوين الصريح، ولا الطائفية الفجّة، ولا الاتهام المباشر باللاشرعية كما في الأشهر السابقة، لكنها انتقلت إلى صيغة أكثر دهاءً على شكل نصوص تتزيّا بلباس التحليل الاجتماعي، وتدّعي الموضوعية الأخلاقية، وتقدّم نفسها بوصفها «مراجعة عقلانية» أو «نقداً قاسياً للذات»، بينما تقوم في جوهرها بوظيفة سياسية واحدة تتمثل في الطعن الجذري بالدولة السورية وبالمجتمع السوري معاً، ولكن بأسلوب ناعم، متخفٍ، وملتبس.
هذه النصوص لا تقول صراحة إن الدولة الجديدة فاشلة، ولا تزعم علناً أن السوريين غير مؤهّلين لبناء دولة، لكنها تبني روايةً أخطر تتمثل في تقديم سرديةِ تذويب الفروق، ومحو السياق، وتسوية التاريخ، بحيث يبدو كل شيء واحداً، وتبدو كل التجارب متشابهة، وكل الأخطاء متساوية. خاصةً في معرض المقارنة بين عقود حكم الأسدَين، وعامٍ مضى من دولة التحرير. وهذا انتقالٌ من الهجوم المباشر إلى الهجوم عبر «التعميم الرحيم»، ومن الإدانة الصريحة إلى الخَلط الأخلاقي المُمنهج.
في هذا السياق، برزت نصوص بعينها تركز، بتكرار، على خلاصة خطيرة مفادها أن المشكلة في سوريا لم تكن يوماً في السلطة أو في بنية الحكم، كما يعتقد السوريون، ظلماً! إنها في «زمرة» اجتماعية أزلية، موجودة في كل عهد وكل نظام وكل طائفة. بهذه السهولة، يُمحى تاريخ الاستبداد، وتُغسل مسؤوليات الدولة الأمنية، ويُعاد تحميل المجتمع ككل وِزرَ ما كان في جوهره نتاجَ منظومة حكم محددة، صنعت أدواتها، وربّت طبقاتها الوظيفية، وأدارت البلاد عبرها لعقود.
ما يجعل هذه المقاربة شديدة الخطورة أنها لا تبدو عدائية للوهلة الأولى. بل إنها، على العكس، تبدو ساخرة، وربما «ناضجة»، ومتعاليةً على الصراع، وكأنها تقول: لنتجاوز السرديات، ولننظر إلى «الإنسان» كما هو، غير أنها تمارس، في العمق، فعلاً سياسياً بالغ القذارة حين تساوي بين دولة الاستبداد الأسدية وشبيحتها من جهة، ودولة التحرير ومجتمعٍ يحاول التعافي، من جهةٍ ثانية، بمعنى أنها تضع الجلاد والضحية في الكفة ذاتها، ثم تُسمّي ذلك موضوعية.
الأكثر تدنياً في هذه المقاربات هو مساواتها بين التطبيل القسري في ظل القمع، والتعبير الفوضوي في فضاء عام جديد. فالهتاف للأسد تحت سطوة الأمن والسلاح، ليس فعلاً أخلاقياً مكافئاً للتأييد أو المعارضة في مرحلة انتقالية مفتوحة
والخلل الجوهري في هذا الخطاب أنه ينقل النقاش من بنية السلطة والسياسة إلى «طبيعة السوريين»، ثم يعيد تحميل المجتمع مسؤولية ما كان في جوهره نتاج دولة قمعية منظّمة. فحين يُقال إن المشكلة في «ناس عديمي الأخلاق موجودين في كل زمان» مثلاً، فإننا لا نكون أمام تحليل اجتماعي، وإنما أمام غسلٍ سياسي للتاريخ. فالفاعل الحقيقي يُسقَط، هنا، من السرد، والجريمة تُذاب في ضباب الاجتماع. وهكذا تُسرِّبُ هذه النصوص لنا، كسوريين، أن الشبيحة لم يكونوا وظيفة سلطوية محمية، وذراعاً إراديةً للقتل والإجرام. وإنما، كل ما في الأمر، أنهم مجرد أفراد سيئي السلوك ظهروا من تلقاء أنفسهم.. وهاهم يُعاودون الظهور في دولة الشرع بنفس الطريقة.
إن تصوير الشبيحة بوصفهم «ظاهرة اجتماعية أزلية»، موجودة في كل مجتمع وكل طائفة وكل زمن، وكأن خمسين عاماً من تفكيك السياسة، وتجفيف المجتمع، وتحويل الولاء إلى شرط للبقاء، لم تكن عاملاً حاسماً في إنتاج هذه الطبقة. إن هذا الطرح مريحٌ للجلاّد، لأنه يقول له: لستَ أنت المشكلة! وهو مُنهِكٌ للضحية، لأنه يقول لها: لا حقّ لك في التمييز، فالانحطاط واحدٌ دائماً.
ثم إن في تلك المقولة اختصاراً كسولاً للتاريخ، لأنه يتجاهل أن التطبيل لم يكن ممارسة اجتماعية حرّة.. فالسوريون يعلمون أنه كان وظيفةً سلطوية محمية ومكافَأة، لها أدواتها وأجهزتها ومساراتها في الجيش، والأمن والإعلام والاقتصاد. والشبيحة لم يظهروا في كل محفل لأنهم موجودون بالفطرة، وإنما لأن السلطة فتحت لهم المنابر، ووفّرت لهم الحصانة، وربطت صعودهم الاجتماعي بولائهم السياسي. ونزعُ هذا السياق هو غسيلٌ سياسيٌ متعمّد.
الأكثر تدنياً في هذه المقاربات هو مساواتها بين التطبيل القسري في ظل القمع، والتعبير الفوضوي في فضاء عام جديد. فالهتاف للأسد تحت سطوة الأمن والسلاح، ليس فعلاً أخلاقياً مكافئاً للتأييد أو المعارضة في مرحلة انتقالية مفتوحة. وتحويل هذا الفرق الجوهري إلى تفصيل ثانوي، هو تزوير أخلاقي لا يقل خطورة عن التزوير السياسي.
لقد بات ما نراه اليوم في معرض الموجة الجديدة للهجوم على سوريا، دولةً ومجتمعاً، ظاهرة خطابية متكاملة أخذت تتسع في الفضاء السوري بعد فشل الأساليب القديمة في الطعن بالدولة الجديدة، أو في شرعنة القطيعة معها. وجوهر هذه الظاهرة هو الانتقال من نقد السلطة بوصفها فاعلاً سياسياً محدداً، إلى نقد المجتمع بوصفه مشكلة بنيوية، ومن تحميل نظام الأسد مسؤولية تاريخية واضحة، إلى تعميم أخلاقي يذيب المسؤولية في «الناس» و»العقل الجمعي» و»الثقافة». وهذا التحول ليس بريئاً ولا تطوراً فكرياً، بقدر كونه انسحاباً متعمّداً من السياسة إلى أخلاق مُسيَّسة.
وهذه الظاهرة تقوم، منهجياً، على خطأ قاتل يتمثل في نزع السياق. فهي تتعامل مع خمسين عاماً من الاستبداد كما لو كانت مجرد «سلوك اجتماعي متكرر»، بدل التوضيح بأنها منظومة حكم قمعية لها أدواتها ومؤسساتها وآلياتها في إنتاج الولاء والتطبيل والشبيحة. وحين يُقال عن السوريين بأنهم طبّلوا لنظام الأسد خمسين سنة، فإن هذا يمحي الفرق بين من طُبّق عليه القمع، ومن كان أداة له، ومن قاوم ودفع الثمن، ومن صمت خوفاً، وبحيث يُختزل الجميع في كتلةٍ أخلاقية واحدة. وهذا أقرب لأن يكون إعادة كتابة للتاريخ من وجهة نظر مريحة للجلاد، بدل أن يكون تحليلاً اجتماعياً.
أما سياسياً، فإن هذه المقاربة تؤدي وظيفة واضحة تتمثل في تفريغ الفضاء العام من المعنى. فهي لا تهاجم مفهوم الشبيحة لتفكيكه، ولا تنتقد التطبيل لإنهائه، ولا تحذّر من الضجيج السياسي لحماية الدولة. إنها تفعل ذلك لتعميم منطق (التشبيح)، ولتحويله إلى قدرٍ أبدي لا جدوى من مقاومته، ولتجريم أي اصطفاف أو حماسة أو مشاركة عامة بوصفها تكراراً للانحطاط ذاته. والنتيجة العملية لهذا الخطاب هي الدعوة الضمنية إلى الـ «لا موقف»، والانسحاب، والبرود الأخلاقي، وتقديم ذلك كله بوصفه «نضجاً» و»تعلّماً من التجربة».
أما الادعاء بأن هذا الخطاب «موضوعي» أو «قاسٍ بعدالة على الجميع»، فهو ذروة الانتكاس التحليلي. فالعدالة لا تعني التسوية بين المختلفين أخلاقياً، ولا تعني محو السياق، ولا التعامل مع النتائج وكأنها أسباب. الموضوعية الحقيقية تميّز بين من صنع المنظومة ومن أُكره على العيش داخلها، بين من مَارسَ القمع ومن تكيّف معه خوفاً أو فقراً أو جهلاً، وبين من يريد تفكيك هذا الإرث ومن يريد تعميمه بحجة الواقعية.
إن بناء الدولة لا يبدأ بإنكار الفروق، ولا يُحمى بتذويب الجرائم في مقولات اجتماعية فضفاضة. إنه يبدأ بالتمييز الصارم بين من مَارسَ الجريمة ومن دفع ثمنها، بين منظومة حُكم دمّرت الإنسان، ومحاولة – مهما تعثّرت – لإعادة بنائه. أما النصوص التي تخلط كل ذلك وتسمّي نفسها «درساً في النضج»، فهي ليست درساً إلا في الانحطاط التحليلي.
في المحصّلة، نحن أمام موجة جديدة من الخطاب، لا تقل خطورة عن الخطابات القديمة التي فشلت. الفارق الوحيد أنها أكثر ذكاءً، وأكثر تمويهاً، وأشد قدرة على التسلل إلى الوعي العام. وفهُم هذه الظاهرة، وتسميتها باسمها، ليس ترفاً فكرياً… إنه ضرورةٌ لحماية المعنى، وحماية الدولة، وحماية حق السوريين في التمييز بين جلادهم وتجربتهم الجديدة، مهما كانت صعبة ومليئة بالأخطاء والعثرات.
«كاتب من سوريا
- القدس العربي


























