دمشق – «القدس العربي»: في ظل تعثر تنفيذ اتفاق العاشر من آذار بين الحكومة السورية و»قوات سوريا الديمقراطية»، تتكثف الحوارات السياسية، وسط تباينات عميقة حول اللامركزية وآلية دمج «قسد» في الجيش، بالتوازي مع مؤشرات على تنفيذ جزئي لبعض بنود الاتفاق، وسط حالة شد وجذب بين الطرفين واحتمالات مفتوحة بين استكمال المسار التفاوضي أو الانزلاق نحو تصعيد سياسي أو عسكري في مرحلة حساسة من إعادة ترتيب المشهد السوري.
في غضون ذلك، نظم «مجلس سوريا الديمقراطية» أمس الأربعاء، اجتماعا في الرقة لمناقشة آخر التطورات السياسية المتعلقة باتفاقية 10 آذار، وسبل تعزيز الحوار السوري – السوري إلى جانب بحث قضايا اللامركزية، وحضر الاجتماع الذي أقامته «قسد» في مدينة الطبقة، ممثلون عن الإدارة الذاتية الديمقراطية والمجالس والهيئات التابعة لها.
مسؤول مكتب العلاقات في «مجلس سوريا الديمقراطية»، حسن محمد علي تحدث عن آخر المستجدات السياسية، حيث أوضح خلال اللقاء أن: «الاتفاق نص على بقاء قوات سوريا الديمقراطية بثلاث فرق عسكرية في مناطق شمال وشرق سوريا موزعة في الرقة ودير الزور والحسكة، بالإضافة إلى كتيبتين إحداهما خاصة بالمرأة وأخرى للوحدات الخاصة، وهناك توافق حول مبدأ اللامركزية، حيث جرى نقاش توسيع صلاحيات المحافظات، وإمكانية عقد اجتماعات مباشرة مع المحافظين للوقوف على الاحتياجات الإدارية إلى جانب مناقشة ملف وقف إطلاق النار، واستمرار الالتزام به حتى الآن رغم بعض المحاولات لخرقه».
وبيّن، حسب وسائل إعلامية تابعة لـ «قسد»، أن «وفداً من شمال وشرق سوريا أجرى لقاءات في مدينة حلب مع محافظي دمشق وحمص وحلب، جرى خلالها بحث القضايا الإدارية وصلاحيات المحافظات» .
وفيما يخص الجانب الدستوري أشار إلى موافقة الحكومة السورية على « إحداث تغييرات دستورية، مع بقاء قوات سوريا الديمقراطية على شكل ثلاث فرق على أن تستكمل التفاصيل عبر لجان تخصصية قبل نهاية العام الجاري».
مماطلة «قسد»
وحول جوهر الاتفاق، كشف المحلل السياسي أحمد الهواس لـ «القدس العربي» أن الاتفاق يقضي بدمج قوات «قسد» في الجيش والأمن السوريين، إضافة إلى تسليم آبار النفط والغاز والسدود والمؤسسات الحكومية للحكومة المركزية في دمشق، باعتبارها ملفات سيادية لا يمكن أن تبقى خارج سلطة الدولة.
غير أن هذا المسار، حسب الهواس، لم يشهد تقدما فعليا على الأرض، إذ يرى أن «قسد» تماطل في تنفيذ بنود أساسية من الاتفاق، وتتراجع عن فقرات محورية، وفي مقدمتها آلية دمج قواتها، حيث تصر على الاندماج ككتلة واحدة تحت قيادة خاصة بها، وهو ما يشكل خطرا مباشرا على بنية الجيش السوري، وقد يكرر، برأيه، تجربة قوات الجنجويد في السودان بعد دمجها كقوة مستقلة داخل الجيش تحت مسمى «الدعم السريع» .
وفي السياق ذاته، يؤكد أن «قسد» لم تسلّم حتى اليوم ما تم الاتفاق عليه من سدود وآبار نفط وغاز ومؤسسات حكومية، بل إن سلوكها تجاوز الجانب الإداري والاقتصادي إلى ممارسات ذات بعد سياسي، وصلت إلى حد منع الأهالي في مناطق سيطرتها من الاحتفال بذكرى التحرير، في مؤشر على فرض واقع منفصل عن الدولة، إلى جانب مطالبتها بما يصفها بـ «مركزية سياسية»، وكأنها تسعى إلى إقامة دولة داخل الدولة السورية.
ومن زاوية إقليمية، يرى الهواس أن تحركات «قسد» الأخيرة تأتي في سياق شعورها بتغير في موقف الراعي الأمريكي، ولا سيما مع الحديث عن احتمال تعاون واشنطن مع الحكومة المركزية في ملف تنظيم «الدولة»، إضافة إلى ما يُتداول عن عودة شركات النفط الأمريكية إلى سوريا، معتبراً أن هذه المؤشرات تعكس تراجعاً في مستوى الدعم الأمريكي لـ «قسد» .
حوار متعثّر وخلافات عميقة واحتمالات مفتوحة بين التسوية والتصعيد
وفي هذا الإطار، يربط الهواس بين هذه التحولات وبين توجه «قسد»، حسب قوله، نحو بيروت، في محاولة لإحياء علاقات قديمة تعود إلى مرحلة كان فيها حزب العمال الكردستاني يتدرب في منطقة البقاع اللبناني بإشراف «حزب الله»، قبل إغلاق تلك المعسكرات عقب اتفاقية أضنة بين تركيا والنظام السوري عام 1998، مشيرا إلى أن الهدف من هذه الخطوة هو تنويع الحلفاء والضغط على حكومة دمشق.
إلا أن الهواس يحذر من أن هذه السياسة قد تأتي بنتائج عكسية، معتبرا أنها تعجّل بنهاية «قسد»، في ظل مراقبة تركيا الدقيقة للمشهد السوري وترقبها لأي نكوص عن تنفيذ الاتفاق، ما قد يفتح الباب أمام تدخل عسكري تركي، ولا سيما بعد إعلان عبد الله أوجلان دعوته لأتباعه إلى إلقاء السلاح والتوجه نحو مرحلة جديدة من السلام مع الدولة التركية.
وفي ختام حديثه يرى الهواس أن المشهد يتجه نحو احتمالات صدام عسكري، سواء مع دمشق أو مع أنقرة، في ظل إصرار «قسد» على امتيازات يصفها بـ «الفوق دستورية» وسيطرتها على مناطق الثروة السورية، وسعيها إلى تشكيل تحالف أقليات في مواجهة الدولة.
ويؤكد أن دمشق تدرك أن استمرار هذا الواقع ينعكس سلبا على الاقتصاد السوري وبنية الدولة، ويفتح المجال لإعادة إنتاج نظام هش قائم على تحالفات فرعية تتفوق فيها الأطراف على المركز، وتنقل سوريا من دولة بسيطة إلى دولة مركبة ضعيفة البنية.
فرصة للتنفيذ
في المقابل، قدّم شلال كدو، رئيس حزب الوسط الكردي في سوريا، قراءة أكثر تفاؤلا لمسار الاتفاق، كاشفا لـ «القدس العربي» أن الاتفاق سيسير، في نهاية المطاف، باتجاه التنفيذ، استنادا إلى جملة من المعطيات السياسية، في مقدمتها إصرار الوسيط الأمريكي على المضي قدما في تطبيق بنوده، رغم اقتراب المهلة الزمنية المحددة في الاتفاق من نهايتها.
ورجّح كدو أن تستمر الحوارات بين طرفي الاتفاق حتى بعد انقضاء المدة الزمنية المنصوص عليها في الاتفاقية نفسها، ولا سيما في ظل عدم رغبة أي من الطرفين بالانزلاق نحو مواجهة عسكرية مفتوحة، رغم ما يشهده المشهد الإعلامي من تراشق وتصعيد في الخطاب، وانتشار خطابات التحريض والكراهية على منصات التواصل الاجتماعي.
التحديات والعوائق
وعن العوائق التي تحول دون استكمال تنفيذ الاتفاق، أوضح أن أبرزها يتمثل في ضعف مناخ الثقة المتبادلة بين الطرفين، إلى جانب الخلاف القائم حول آلية دمج «قوات سوريا الديمقراطية» في الجيش السوري، فضلا عن الجدل المثار بشأن جاهزية الجيش نفسه، سواء من حيث اكتمال بنيته التنظيمية أو توحيد عقيدته العسكرية وترسيخ مفهوم الولاء الوطني داخله.
وأشار إلى أن الاختلافات العقائدية بين الجانبين تشكل عاملا إضافيا معرقلا، مؤكدا أن التوصل إلى عقيدة عسكرية وطنية موحدة يعد خطوة أساسية من شأنها إزالة عقبات كبيرة تعترض طريق تنفيذ الاتفاق.
وحول أبرز التحديات التي تواجه الطرفين في المرحلة الراهنة، قال كدو إن التحدي الأكبر يبقى غياب الثقة المتراكمة بينهما، حيث لا يزال التشكيك المتبادل في النوايا قائما، وإن كان قد تراجع نسبيا في الآونة الأخيرة. وإلى جانب ذلك، يبرز الخلاف الجوهري حول شكل الحكم في سوريا، إذ تصر «قوات سوريا الديمقراطية» على تبني نموذج اللامركزية السياسية والإدارية الموسعة، في حين تميل دمشق إلى الحفاظ على نموذج الدولة المركزية.
ملفات شائكة
كما لفت كدو إلى أن قضايا الاعتراف بالإدارة الذاتية، وآلية دمج «قسد» ـ سواء ككتلة واحدة، أو ضمن فيالق عسكرية، أو من خلال تفكيكها وإعادة توزيع عناصرها ـ إضافة إلى ملفات الأجهزة الأمنية المحلية، وإدارة السجون، والتنسيق الاستخباراتي، وإدارة الموارد الطبيعية وتوزيع عائداتها، تشكل مجتمعة تحديات رئيسية لا بد من معالجتها لتجاوز العقبات القائمة. في المقابل، أشار إلى وجود نقاط توافق أساسية بين الطرفين، تتمثل في التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم، واعتبار مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» جزءا لا يتجزأ من الجغرافيا السورية، إلى جانب اعتماد الحوار السياسي وسيلة لحل جميع القضايا العالقة، والتوافق على محاربة الإرهاب والتنسيق المشترك لمنع عودة تنظيم «داعش» مجددا.
وبرأي كدو فإن هذا الاتفاق يمثل فرصة حقيقية لدمج «قوات سوريا الديمقراطية» ضمن الجيش السوري، ويفتح المجال أمام مشاركة قيادات «قسد» في هيكلية القيادة العسكرية، كما يتيح، في حال تطبيقه، إمكانية الشروع في معالجة عادلة للقضية الكردية، التي تشكل اختبارا جوهريا للسلطات السورية الجديدة. ويؤكد أن الوصول إلى حل منصف لهذه القضية الوطنية من شأنه أن يؤسس لشراكة وطنية حقيقية، ويفتح الباب أمام مسار توافق داخلي شامل لمعالجة بقية القضايا الملحّة في البلاد.
معلّق بسبب التعقيدات
في السياق، أوضح الأمين العام للحزب اليساري الكردي في سوريا، محمد موسى، لـ «القدس العربي» أن الاتفاق معلق بين طرفين، حيث يتحجج كل طرف بأسباب مختلفة لتبرير تأخير تطبيقه أو عدم الالتزام ببنوده، مؤكدا أنه وبحكم اطلاعه الكامل منذ البداية على تفاصيل هذا الاتفاق، فإن النقاط العالقة والمعرقلة لتنفيذه تعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة العلاقات الإقليمية والمشاريع المطروحة على الساحة الوطنية السورية، مشيرا إلى أن الدولة التركية تُعد من أكثر الأطراف التي تعرقل الوصول إلى تنفيذ فعلي لهذا الاتفاق.
وفيما يتعلق بنقاط الخلاف الأساسية، أشار إلى أن سلطة دمشق ترى أن «قوات سوريا الديمقراطية» يجب أن تنضم إلى الجيش السوري على شكل أفراد، وهي نقطة خلافية جوهرية، في حين تطرح «قسد» رؤية مغايرة تقوم على الانضمام إلى الجيش السوري الذي يجري تشكيله من عدة قوى ومجاميع، بصفتها فرقا وألوية عسكرية وليست كعناصر منفردة.
نقطة اشتباك إضافية
وأضاف أن هذا الخلاف لا يقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل يمتد إلى ملف الأمن الداخلي في مناطق شمال وشمال شرق سوريا، حيث تصر «قسد» على أن يكون الأمن الداخلي في هذه المناطق من مهام قوات سوريا الديمقراطية نفسها، باعتبارها القوة التي تولت إدارة الأمن خلال السنوات الماضية.
وفي هذا السياق، اعتبر موسى أن دمشق تحاول بشتى الوسائل ممارسة ضغوط متواصلة على «قسد» لدفعها نحو حل نفسها والانضمام إلى الجيش السوري بصفتها أفرادا، مؤكدا أن هذه النقطة تشكل جوهر الخلاف القائم بين الجانبين في المرحلة الحالية.
وعلى المستوى السياسي، أوضح أن دمشق، حتى الآن، «لم تقترح أي مشروع واضح للحل مع مناطق الإدارة الذاتية، ولم تبد أي مرونة حقيقية حيال المشاريع السياسية المطروحة من قبل الإدارة الذاتية، ولا سيما تلك المتعلقة ببناء دولة لا مركزية تكون منطقة شمال وشرق سوريا جزءا أساسيا منها، على أن تنظم العلاقة بين المركز والأطراف والأقاليم بقانون واضح، وهو طرح ترفضه سلطة دمشق بشكل كامل ولا تقبل به بأي صيغة» .
شكل الدولة
وأكد موسى أن الجانب الأهم في هذا الملف يتمثل في طبيعة الدولة السورية المستقبلية، مشددا على أن «سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة لا مركزية، في حين تطرح السلطة في دمشق نموذج اللامركزية الإدارية فقط، وهو مقترح لا يحظى بقبول القوى المجتمعية الفاعلة، ولا لدى القوميات والطوائف المختلفة، ولا يعكس واقع التعدد القومي والديني والمذهبي في البلاد». ولفت إلى أن منطقة الساحل السوري تطرح نموذج الفيدرالية، كما يطالب الجنوب في السويداء بالفيدرالية، في حين تطرح «قسد» مشروع اللامركزية السياسية، مؤكدا أن مجمل هذه الطروحات تقابل بالرفض التام من قبل سلطة دمشق.
وبيّن أن «النقاط الخلافية الجوهرية تتمحور حول شكل الدولة السورية، وآلية انضمام قسد، وحقوق المكونات التي يتشكل منها المجتمع السوري من كرد وعرب وسريان، إضافة إلى الطوائف ذات الخلفيات الدينية والمذهبية المختلفة.
وشدد على أن «جميع هذه القضايا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وأن تحظى بقبول حقيقي داخل الدولة السورية الجديدة، التي يفترض أن تبنى من مجموع هذه المكونات على أنقاض الاستبداد»، محذرا من «إعادة إنتاج استبداد جديد بصيغ مختلفة، ومؤكدا ضرورة بناء دولة تعددية لا مركزية تمثل جميع القوى والمكونات التي يتشكل منها المجتمع السوري» .
تحركات «قسد»
وفيما يخص زيارة وفود من «قسد» إلى بيروت، أكد موسى أن عشرات الوفود التابعة لـ «قسد» زارت العديد من الدول المحيطة، والإقليمية والدولية، وأن هذه الاتصالات تصب في إطار طرح رؤية «قسد» لمستقبل إدارة منطقة شمال وشرق سوريا، والترويج لمشروع الإدارة الذاتية.
أجواء إيجابية
واستبعد في الوقت نفسه أن تلعب بيروت دورا مؤثرا في مسار بناء سوريا، معتبرا أن التأثير الحقيقي في مستقبل سوريا ورسم معالم دولتها المقبلة يظل بيد قوى إقليمية ودولية كتركيا وإيران، رغم انحسار الدور الإيراني نسبيا، إضافة إلى القوى الكبرى مثل واشنطن وموسكو.
وفي ختام حديثه، أشار إلى أن العوامل المعرقلة لتطبيق اتفاق العاشر من آذار لا تزال قائمة، لافتا إلى أن الأيام المقبلة قد تحمل أجواء إيجابية وخطوات أولى باتجاه التنفيذ، إلا أنه يرى أن المعالجات الجزئية المطروحة حاليا لتطبيق الاتفاق لن تكون كافية لبناء موقف سوري موحد، ما لم يتم التوافق على القضايا الأساسية، ولا سيما السياسية منها، باعتبارها المدخل الضروري لتمكين القوى الفاعلة من بناء دولة سورية تعددية ولا مركزية.
- القدس العربي


























