مضى عام على سقوط نظام الأسدين، مضى عام على عودة سوريا، تغير الكثير خلال هذا العام، كان عاماً مليئاً بكل شيء وكانت فرحتي بالذكرى الأولى مليئة بالتناقضات.
عجت سوريا بالمحتفلين، السوريون في الشوارع يحتفلون بالنصر، ملايين السوريين ملؤوا الساحات، رقصاً وغناءً وصلاة ودعاء. في دمشق المشهد لا يمكن أن تنقله عدسة الكاميرا ولا الكلمات مهما كانت منمقة ومعبرة؛ جميل هذا الفرح. وأنا أنظر إلى الوجوه في كل مكان لم أستطع أن أمنع نفسي من سؤالها، ماذا لو كنتم جميعكم معنا من اليوم الأول؟ ماذا لو من احتفلوا شاركوا بمظاهرة يوم الجمعة في العام 2011؟! كم كنا وفرنا على سوريا وناسها.
في الحفل الرسمي، يتسابق البعض لحجز مقعد في الصفوف الأولى، والصفوف الأولى لا تتسع للجميع، الجميع يريد أن يكون شاهداً وحاضراً، هو يوم النصر، يوم سوريا الجديدة، هذا اليوم الذي ما كان ليتحقق لولا الـ14 عاماً التي سبقته، خرج أطفال صار بعضهم شباب، أبكوا الجميع؛ الحضور والغياب. بكينا ذكرياتنا وعذاباتنا 14 عاماً، وبكى البعض دموع الندم أنه لم يشاركنا هذه المسيرة، أو هكذا أريد أن أظن.
عرض مسرحي أعاد إحياء بعض محطات مرت بها الثورة، تقول سيدة من الحضور لزميلتها عن أحد الصور، هذه عندما ضرب أطفال درعا بالكيماوي، لم أستطع أن أتوقف عن البكاء عندما سمعت العبارة، كم كانت المسافة بيننا يا أبناء وطني بعيدة، إن غفرنا صمتكم فكيف نغفر جهلكم بما مررنا به؟ ماذا لو عرفتم ما حل بدرعا وأطفالها، بالحولة والبيضا؟ ماذا لو لم تشيحوا بنظركم عن الغوطة؟ هل كانت المجزرة لتستمر كل هذه السنين؟
كانت لحظات فرحي الشخصي مليئة بالتناقضات، فرح امتزج بغضب حاولت كبته ما استطعت، فرح لم تفارقه غصة رفاق خسرناهم خلال الـ14 عاماً، ماذا لو كانوا بيننا اليوم، ماذا لو سمح لنا أن نودعهم؟ ولكن حتى الوداع بعضنا – وبعضنا يقدر بالملايين – حرمنا منه.
تسمع في دمشق امتعاض من كنا ندعوهم بالصامتين، ونسمع بمزايدات المكوعين، وأغلبنا يهز برأسه. يدرك أبناء الثورة أكثر من غيرهم أن الثورة كانت من أجل الجميع، من أجل سوريا وجميع السوريين وأن سوريا الجديدة لا بد أن تتسع للجميع.
ولكن هل يريد الجميع أن تتسع لهم سوريا؟ كانت الفرحة بالنصر منقوصة، اتفاق العاشر من آذار لم يُطبق بعد، وأهالي الجزيرة السورية عاتبون ومحرومون من الاحتفال. في السويداء جرح عميق لم يندمل بعد، وأي من جروح السوريين اندمل؟!
ماذا عن أبناء الطائفة العلوية؟ جميعنا يعلم – حتى لو حاول بعضنا الإنكار – أن المجرمين الذين ارتكبوا مئات المجازر لم ينتموا لطائفة واحدة، بل كانوا سوريين من جميع الطوائف، حتى ولو كانت الغالبية العظمى من الضحايا من طائفة واحدة، إلا أن القتلة كانوا من جميع الطوائف.
لا أعرف إن كانت تسريبات بشار الأسد يوم الاحتفال بذكرى النصر مقصودة، ولكن ها هو القاتل الذي قتل مئات آلاف السوريين ودمر سوريا يسخر لا من سوريا فحسب ولا من ضحاياه فحسب، بل يسخر ممن دفع دماء عشرات الآلاف من شبابهم ليدافعوا عن ملكه هو.
أن يسخر من “حزب الله” لم يكن بالنسبة لي مستغرباً، قيادة الحزب هي من قررت أن تحول شبابها إلى مرتزقة يَقتلون ويُقتلون دفاعاً عن نظام مجرم وقاتل، ولكن أن يسخر هو ومستشارته من أبناء الطائفة العلوية، من لهجتهم وحتى أسلوب تعبيرهم عن الولاء لـ”القائد”؟
قد تكون سخريته تلك الشيء الإيجابي الوحيد الذي قدمه بشار في حياته للسوريين، فهل سمعه أهالي من قتلوا دفاعاً عنه؟ وهل أدركوا بعد قراءة تقرير “رويترز” أن بعض من في الخارج من فلول الأسد لم يشبع من دمائهم بعد، وأنه على استعداد للتسبب بمقتل المزيد من شباب الطائفة العلوية خدمة لمشروعهم السلطوي؟
هي لحظات اجتمعت فيها كل هذه المشاعر والأسئلة، هي لحظة علينا جميعاً فيها أن نؤمن أن سوريا تتسع لنا جميعاً، بطوائفنا وأعراقنا وبتنوعنا واختلافنا السياسي والاجتماعي، هي لحظة حتى وإن شابها بعض الغضب والآلم والسؤال “أين كنتم”.
سقط الأسد وتحررت سوريا وتحرر السوريون، رفعت العقوبات وبدأت مرحلة بناء الدولة، الدولة التي لا تفرق بين مواطنيها، الدولة التي يقع على عاتقها تحقيق العدالة أولاً، كي لا ينزلق المجتمع نحو الثأر، ومن لم يكن شريكاً في معركة التحرر، إما خوفاً أو تضليلاً، اليوم يجب أن يكون شريكاً في مسيرة البناء، سوريا تتسع لنا جميعاً، ولكل منا غصته، ولكن “سوريا أولاً” هي الأساس.
- الثورة السورية


























