بعد مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد، لم تتحوّل تلك اللحظة المفصلية إلى مسار واضح لإعادة بناء الدولة السورية على أسس جديدة، بل دشّنت مرحلة انتقالية مضطربة يتزامن فيها انفتاح دبلوماسى متسارع مع تفكك داخلى متزايد، ففى الوقت الذى استعادت فيه دمشق قدرًا من حضورها الخارجى، ظلّ المجال الوطنى يتآكل تحت وطأة سيطرة جزئية للدولة، مع توسّع واضح لمناطق نفوذ إقليمية: تركية فى الشمال، وإسرائيلية فى الجنوب، وهشاشة مستمرة فى الشرق. ونتيجة لذلك، تبدو سوريا اليوم أقرب إلى دولة مُعلَّقة بين وحدة شكلية على الورق وتفكك فعلى على الأرض.
وقد عكست زيارة مجلس الأمن إلى سوريا فى ٤ ديسمبر الجارى هذا التناقض بوضوح، إذ أظهر التقرير المقدَّم للمجلس هشاشة الوضع الأمنى، واستمرار التوترات المجتمعية، وتصاعد خطاب الكراهية، وتكرار أعمال العنف الطائفى، إضافة إلى انتشار السلاح وتزايد التدخلات الخارجية. وبذلك، يظل المشهد السورى بعيدًا عن الاستقرار، مع تقدم نسبى على المستوى الخارجى يقابله تفكك داخلى يهدد جهود إعادة بناء الدولة الوطنية.
وفى السياق ذاته، أجمعت تقارير حديثة صادرة عن عدد من مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الغربية على خطورة المرحلة التى تمر بها سوريا. فقد خلص التقرير الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) فى ٤ ديسمبر الجارى إلى أن البلاد تواجه تحديات مركّبة، فى مقدمتها تزايد التوترات الاجتماعية والطائفية، وهشاشة عملية البناء السياسى الداخلى، وتصاعد الضغوط الاقتصادية، وتعقيدات ملف إعادة الإعمار. كما حذّرت هذه التقارير من أن الارتفاع الكبير فى توقعات السوريين بعد سقوط نظام الأسد لم يُترجم إلى نتائج اجتماعية واقتصادية سريعة، ما يعرّض نظام أحمد الشرع لانتقادات متزايدة، ويهدد بدفع قطاعات واسعة من المجتمع نحو الإحباط السياسى، فى وقت تتزامن فيه هذه الأزمات مع حاجة البلاد إلى مساعدات خارجية ضخمة لمواجهة التحديات الغذائية والصحية القائمة.
فمنذ الأيام الأولى للمرحلة الانتقالية، اتخذت القيادة الجديدة، برئاسة الشرع، من السياسة الخارجية أداة لتعويض محدودية الشرعية الداخلية، انطلاقًا من افتراض مفاده أن إعادة إدماج سوريا فى النظام الدولى، ورفع العقوبات، واستقطاب الدعم الإقليمى، يمكن أن يشكّل بديلًا مؤقتًا عن عقد اجتماعى جديد. وقد حققت هذه المقاربة بعض النجاحات، تمثلت فى كسر العزلة الدبلوماسية وعودة سوريا تدريجيًا إلى بعض المنصات الدولية، فى ظل توافق غربى مع عدد من القوى الإقليمية على منع انهيار الدولة السورية. غير أن هذا الانفتاح الخارجى لم يترافق مع عملية سياسية داخلية جامعة، ما ترك فجوة واضحة بين شرعية تُبنى خارجيًا وشرعية غير مكتملة داخليًا.
فعلى الصعيد الداخلى، لم تنجح المرحلة الانتقالية فى ترميم المجال الوطنى السورى الذى تآكل خلال سنوات الصراع. فالدولة لا تسيطر سيطرة كاملة على كافة أراضيها، ولا تحتكر استخدام القوة، كما لم تتجه نحو نموذج حكم جامع أو لا مركزى يستوعب التنوع السياسى والمجتمعى، بل أعادت إنتاج نمط حكم مركزى يتمحور حول الرئيس ودائرة ضيقة من المقرّبين، مع الاعتماد على مؤسسات انتقالية شكلية، ما يجعل استقرار الدولة رهينًا بالأشخاص أكثر من كونه قائمًا على صلابة المؤسسات أو رضا المجتمع.
وتجلّت هذه الإشكالية بوضوح فى العلاقة بين المركز والأطراف، ولا سيما فى محافظة السويداء، حيث أظهرت طريقة تعامل الدولة مع مطالب الطائفة الدرزية استمرار المقاربة الأمنية على حساب الحلول السياسية. وقد أسهم ذلك فى تعميق شعور التهميش، ودفع المجتمعات المحلية إلى تعزيز آليات الحماية الذاتية، على نحو يقوّض سلطة الدولة بدلا من أن يعززها، ويكرّس منطق الانفصال الوظيفى بين الدولة ومواطنيها.
ويتقاطع هذا التفكك الداخلى مع أدوار إقليمية متعاظمة. ففى الجنوب، تجاوز الدور الإسرائيلى منطق الضربات الوقائية إلى فرض معادلات أمنية تهدف إلى منع عودة دولة سورية مركزية قوية ومواصله احتلال أراضى الجولان وأراضٍ أخرى إضافية، وفى الشمال، عززت تركيا حضورها العسكرى والإدارى عبر فصائل محلية مرتبطة بها، ما جعل تلك المناطق أقرب إلى فضاء تابع وظيفيًا لأنقرة، رغم بقائها اسميًا ضمن الدولة السورية. أما الشرق فلايزال خارج السيطرة المركزية الكاملة، ما يضيف طبقة جديدة من الهشاشة إلى المشهد العام.
فى ضوء هذه المعطيات، تتجه سوريا نحو نموذج دولة موحدة شكليًا لكنها مجزأة فعليًا إلى مجالات نفوذ إقليمية، تُدار عبر ترتيبات أمنية غير معلنة أكثر مما تُدار عبر مؤسسات وطنية جامعة، فبعد عام على سقوط الأسد، يتضح أن التحدى الحقيقى لا يكمن فى تغيير رأس النظام، بل فى بناء حد أدنى من التوافق الوطنى المشترك القادر على احتواء الانقسامات والهواجس المحلية. وفى ظل غياب ذلك، يبقى الانفتاح الخارجى بلا ترجمة عملية، وتبقى سوريا دولة معلّقة، تحافظ على وحدتها على الورق دون أن تنعكس فعليًا على أرض الواقع.
- المصري اليوم


























