دمشق – «القدس العربي»: شهد مدينة حلب هدوءا حذرا، أمس الثلاثاء، عقب ليلة من المواجهات العنيفة بين قوات الجيش السوري و»قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى مدنيين، وتضرر البنية الخدمية في عدد من الأحياء، فيما انتشرت قوات الجيش وقوى الأمن الداخلي على محاور الاشتباك لتأمين المنطقة وإجلاء المدنيين.
وتزامنا مع مساعي إعادة الاستقرار وجهود فنية لإصلاح الأعطال في شبكتي الكهرباء والاتصالات، تتسارع التحركات السياسية بين دمشق وموسكو وأنقرة وسط قراءات سياسية متباينة حول مستقبل اتفاق 10 آذار، بين من يرجح التصعيد العسكري ومن يعتقد بإمكانية استمرار المسار التفاوضي، بينما تبقى السيناريوهات مفتوحة خلال الأيام المقبلة.
ومنذ تثبيت التهدئة ووقف الاشتباكات، انتشرت صباح أمس الثلاثاء، قوات الجيش السوري وقوات الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية «الأساييش» على محاور الشيخ مقصود والأشرفية ودواري شيحان والليرمون، في وقت تشهد فيه شوارع حلب حركة مرورية محدودة نتيجة الوضع الأمني المتوتر.
وأكد محافظ حلب عزام الغريب أن أحياء المدينة تشهد عودة تدريجية للحياة، مشيرا إلى أن الفرق الفنية تواصل إصلاح الأضرار التي طالت شبكتي الكهرباء والاتصالات جراء ما وصفها بـ»اعتداءات قسد» وخرقها لاتفاق وقف إطلاق النار عبر استهداف الأحياء السكنية. كما شدد حرص سوريا «على بذل كل الجهود لإرساء الأمن والاستقرار في المحافظة».
وذكرت وزارة الصحة أن الحصيلة النهائية لضحايا استهداف الأحياء السكنية في المدينة بلغت أربعة قتلى و14 مصابا.
وفي سياق تقييم الوضع والتحديات أمام تطبيق اتفاق آذار، والمآلات المحتملة، يوضح عضو مكتب العلاقات العامة في مجلس «سوريا الديمقراطية» ـ «مسد» وسكرتير الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي)، نصر الدين إبراهيم، في تصريح لـ «القدس العربي» أن اتفاق العاشر من آذار الذي عقد بين قوات سوريا الديمقراطية والسلطة الانتقالية في دمشق، يهدف إلى معالجة القضايا العسكرية والأمنية، إضافة إلى جوانب من القضايا السياسية والإدارية في المناطق الكردية وعموم شمال و شرق سوريا. رغم بعض الخطوات التي تم تنفيذها مثل تشكيل لجان مشتركة وتحسين التنسيق الأمني، فإن الاتفاق يواجه تحديات كبيرة في التنفيذ. المعوقات تشمل التجاذبات السياسية الداخلية، والمطالب المتباينة بين «قسد» ودمشق، فضلاً عن الضغوط الإقليمية والدولية.
محلّلون لـ «القدس العربي»: سيناريو الحرب غير مستبعد في ظل انسداد تطبيق اتفاق آذار
ويضيف: التحديات أمام «قسد» تتعلق بالحفاظ على نفوذها العسكري والسياسي في الشمال الشرقي واعتماد اللامركزية كشكل أنسب للدولة وكشرط لا بد منه لحل القضية الكردية، بينما تواجه دمشق تحديات في استعادة السيطرة على المناطق هذه المناطق في ظل عجزها وهشاشة الانضباط حيث التطرف السائد في صفوفها وآخر الأدلة هو استهداف القوات الأمريكية في تدمر دون المساس بالتوازنات الداخلية والخارجية. النقاط المتفق عليها تشمل تحسين التعاون الأمني ومنع التصعيد، رغم أنها لم تترجم إلى نتائج ملموسة.
أما بالنسبة لمآلات الاتفاق فيقول: المستقبل غير واضح، إذ قد يؤدي إلى تهدئة نسبيّة أو يتعرض للانهيار بسبب استمرار المعوقات الأمنية والسياسية في ظل تعدد القوى المتحكمة بقرار السلطة المؤقتة في دمشق.
ويضيف: كلنا أمل بأن أسلم الحلول هي التفاوض كمدخل لحل سلمي يرضي الجميع وصولا الى بلد ديمقراطي تعددي لامركزي ينعم فيه جميع أبنائه بالعدل والكرامة والمساواة.
وحول مسارات المواجهة أو التسوية المحتملة، تحدث المحلل السياسي الكردي علي تمي، لـ»القدس العربي»، عن طبيعة المفاوضات بين الطرفين وأسباب تعثر الاتفاق.
وقال إن طبيعة المفاوضات بين «قسد» والحكومة السورية بدأت بمطالب واضحة من جانب «قسد»، حيث طالبت في البداية بتشكيل ثلاث فرق عسكرية تتبع لها وتتمركز في شرق الفرات، على أن تكون إحدى هذه الفرق من النساء. وأوضح أن الحكومة السورية ترددت بداية، لكنها وافقت لاحقا شريطة انتشار الجيش السوري في مناطق شرق الفرات، وتسلم مؤسسات الدولة وإدارة الحدود، إلا أن «قسد» تهربت من هذا الشرط، وأصرت على الاحتفاظ بخصوصيتها العسكرية والتحكم بملف النفط والغاز، وهو ما رفضته الحكومة السورية، الأمر الذي قاد إلى الوصول إلى طريق مسدود.
حرب لا مفر منها
واعتبر أن الوصول إلى حل جذري أصبح مستبعدا، خاصة بعد دخول إيران على خط الأزمة ومحاولتها خلط الأوراق، ما زاد المشهد تعقيدا.
وحول اندلاع المواجهات في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، أشار إلى أن «قسد» أشعلت في حلب لسببين رئيسيين: الأول توجيه رسالة للوفد التركي الذي زار دمشق الإثنين الماضي، ومحاولة إلقاء المسؤولية على الحكومة وخلق حالة إنسانية تستثمرها في خطاب المظلومية.
أما السبب الثاني فهو إدراك «قسد» أن دمشق وأنقرة حسمتا موقفهما، ولن تسمحا بفرض أمر واقع جديد في شرق الفرات، ولذلك لجأت «قسد»، حسب تعبيره، إلى الهجوم باعتباره أفضل وسيلة للدفاع. وبناء على ذلك، يؤكد أن المؤشرات جميعها تدل على أن البلاد متجهة نحو حرب لا مفر منها.
وأضاف أن الفخ الذي نصب في الشيخ مقصود والأشرفية لا يقل خطورة عن أحداث السويداء سابقا، معتبرا أن القضية مترابطة ومتراكمة. وأوضح أن اتفاق 10 آذار يحمل مضمونا واضحا، ويقوم على ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها: إما تنفيذ الاتفاق سلميا وهو الخيار الأفضل، أو اندلاع مواجهة عسكرية بين الحكومة و»قسد» لحسم الملف بالقوة، أو السيناريو الأسوأ وهو الانزلاق إلى الفوضى وحرب أهلية نتيجة الاحتقان وتراجع الثقة بالاتفاق.
وشدد على أن هذا الاتفاق يمثل طوق نجاة للجميع، محذرا من الرهان على المواقف الإسرائيلية أو الإيرانية للتصادم مع الشعب السوري، وواصفا ذلك بالمغامرة السياسية الخطيرة. وأكد أن اللعب على آلام السوريين ومعاناتهم سيؤدي إلى ثمن باهظ جدا، داعيا إلى استغلال ما تبقى من وقت قبل فوات الأوان.
دور روسي
ولفت تمي إلى أن وصول الوفد السوري إلى موسكو اليوم يهدف لوضع اللمسات الأخيرة على خطط الحرب، موضحا أن ما نوقش بين السوريين والأتراك في دمشق جرى استكماله في موسكو عبر مباحثات حاسمة.
واعتبر أن زيارة موسكو في هذا التوقيت تحديدا تحمل أهمية كبيرة لأن دمشق تخشى أن يدفع أي تحرك عسكري في شرق الفرات بالتنسيق مع أنقرة، تل أبيب إلى التحرك عسكريا. لذلك جاءت موسكو لضمان توازنات جديدة، من خلال نشر دوريات في الجنوب وتفعيل قاعدة حميميم، والاستعداد لترتيبات عسكرية في القامشلي قبل نهاية العام، معتبرًا أن الأيام المقبلة ستكون مصيرية.
فشل متوقع وخلاف جذري
وحيال مسار الأحداث وطبيعة العلاقة بين الحكومة السورية و»قسد»، وتقييمه لمآلات المشهد المقبل، يوضح المحلل السياسي باسل معراوي من مدينة حلب، لـ»القدس العربي»، أن فشل اتفاق 10 آذار كان متوقعا منذ اليوم الأول لتوقيعه، مشيرا إلى أن الحكومتين السورية والتركية كانتا تدركان مسبقا أن الاتفاق لن يصل إلى نتائج عملية.
ومع ذلك، فإن المضي فيه كان ضروريا ـ وفق تقديره ـ لإقامة الحجة على «قسد»، سواء لأسباب داخلية تتعلق بالوضعين السوري والتركي، أو لأسباب خارجية ترتبط بطبيعة العلاقة بين «قسد» والولايات المتحدة، باعتبار الأخيرة تعتمد على هذه القوة كحليف ميداني ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
ويشير إلى أن القيادة السورية عملت، منذ توقيع الاتفاق مع مظلوم عبدي، على تجميع أوراق القوة وتعزيز موقعها التفاوضي، على أمل عدم الوصول إلى الخيار العسكري لإنهاء ما تعتبره «تمرداً» على الدولة. ويؤكد أن دمشق تنظر إلى «قسد» بوصفها رأس حربة في دعم وتمويل النزعات الانفصالية، وتوظيف ملف الأقليات عبر تقديم نفسها كجهة حامية لهم.
ويضيف المحلل أن المشكلة الجوهرية تكمن في اختلاف المقاربة؛ فالحكومة السورية ترى في «قسد» قوة عسكرية متمردة تختطف قرار الأكراد ومنطقة الجزيرة وتعتمد حصراً على الدعم الأمريكي دون امتلاك جذور راسخة داخل المجتمع خلال العقد الماضي. في المقابل، تعتبر «قسد» نفسها نداً للحكومة وشريكاً مفترضاً في تقاسم السلطة وإدارة الدولة.
استراتيجية «قسد»
في المقابل، يوضح أن «قسد» اتجهت خلال الأشهر الماضية إلى الاستثمار في نقاط ضعف الحكومة، عبر دعم أطراف معارضة لها، والحديث عن فشلها في إدارة ملف الأقليات وانتهاك حقوقهم، إلى جانب انتهاج أسلوب التفاوض دون تحقيق أي تقدم جدي.
ويرى معراوي أن أحداث حلب الأخيرة جاءت في هذا السياق، بعد اقتراب انتهاء المهلة الممنوحة لتنفيذ الاتفاق، في محاولة من «قسد» لجر الحكومة إلى مواجهة غير ذات جدوى عسكرية، لكنها تجري في أحياء مكتظة وتؤدي إلى سقوط ضحايا يمكن توظيفهم لإنتاج خطاب «مظلومية» جديد. كما يعتبر أن ما جرى كان محاولة للتشويش على زيارة الوفد التركي الرفيع إلى دمشق ولقائه القيادة السورية.
الحرب: سيناريو المواجهة المحتملة
ويؤكد معراوي أن الخيار العسكري بات الأقرب، لأن «قسد» لم تبد ـ برأيه ـ جدية في تنفيذ أي من بنود الاتفاق خلال الأشهر التسعة الماضية، ولم تتخذ حتى خطوات بناء الثقة مع الحكومة. ويشير إلى أن العقدة الأساسية في الاتفاق تتعلق بمسألة الاندماج ضمن الدولة، حيث يحمل كل طرف رؤية متعارضة لا تسمح بحلول وسط.
ويخلص المحلل السياسي إلى أنه لم يعد أمام «قسد» سوى الذهاب إلى المواجهة ومحاولة استثمار أي أخطاء قد تقع فيها الحكومة، بينما تدرك دمشق هذا المسار وتستعد ـ وفق تقديره ـ لاستخدام الحد الأدنى من القوة المنظمة، مع الاعتماد على انهيارات متوقعة في صفوف «قسد»، إلى جانب ضربات جوية تركية نوعية. ويرى أن الحرب باتت حتمية، وأن «قسد» ستتراجع إلى جيوب مقاومة صغيرة، لأنها لا تملك القدرة العسكرية للدفاع عن جبهات واسعة، مرجحاً لجوء الحكومة السورية إلى تفعيل اتفاق أضنة لتأمين الشرعية للتدخل العسكري التركي.
ويرى معراوي أن الحكومة السورية نجحت خلال الفترة الماضية في إصلاح علاقاتها مع محيطها الإقليمي، وتوسيع دائرة الانفتاح باتجاه دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. أما على الصعيد الأمريكي، فيؤكد أن الاتصالات التي بدأت بحذر تطورت إلى علاقات طبيعية أثمرت ـ وفق روايته ـ عن رفع شامل للعقوبات، وإلغاء قانون قيصر، ثم توقيع اتفاق بارز خلال زيارة الرئيس السوري الأخيرة إلى واشنطن، يقضي بانضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. ويعتبر معراوي أن ذلك يشكل مؤشرا على تحول واشنطن للنظر إلى دمشق بوصفها حليفا استراتيجيا في الشرق الأوسط، رغم اعتراض إسرائيل واللوبيات المؤيدة لها.
- القدس العربي


























