من السهل، في منطقة مثقلة بالهزّات والدماء، أن يُعاد تفسير كل حدث أمني كبير باعتباره جزءاً من لعبة دولية خفية، أو مؤامرة مُحكمة تُدار من غرف سوداء. لكن الأصعب، والأكثر ضرورة اليوم، هو تفكيك الوقائع كما هي، وربطها بسياقاتها السياسية والأمنية الحقيقية، بعيداً عن الإسقاطات الجاهزة. من هذا المنطلق، تأتي الضربات الجوية الأمريكية الأخيرة في سوريا، ضمن عملية أُطلق عليها اسم “عين الصقر”، كحدث يستدعي قراءة هادئة، لا تنكر الأسئلة المشروعة، لكنها ترفض الانزلاق نحو روايات تبريرية أو تبسيطية.
الولايات المتحدة أعلنت أن عمليتها استهدفت أكثر من سبعين موقعاً مرتبطاً بتنظيم الدولة الإسلامية، شملت بنى تحتية، ومخازن أسلحة، ومواقع نشطة للتنظيم. وترافق ذلك مع مشاركة مباشرة من سلاح الجو الأردني في ضرب أهداف للتنظيم جنوبي سوريا، في رسالة إقليمية واضحة حول استمرار التنسيق الأمني في مواجهة الخلايا المتبقية للتنظيمات المتطرفة. كما جاء التصعيد بعد هجوم مسلح في محيط تدمر أدى إلى مقتل جنديين أمريكيين ومترجم مدني، وهو ما شكّل، عملياً، نقطة التحول التي أطلقت الرد العسكري.
لا يمكن تجاهل موقف الدولة السورية الجديدة، التي أعلنت التزامها بمحاربة تنظيم الدولة، ودعت صراحة الولايات المتحدة والتحالف الدولي إلى منع تحوّل الأراضي السورية إلى ملاذات آمنة للتنظيم.
هنا بدأ السؤال التقليدي يتردد: إذا كانت واشنطن تعرف بوجود هذا العدد من الأهداف والمواقع النشطة، فلماذا لم تتحرك سابقاً؟ ولماذا عاد تنظيم الدولة إلى الواجهة الآن تحديداً؟ هذه الأسئلة، وإن كانت مشروعة، سرعان ما جرى تحميلها ما يفوق معناها، لتغذية سرديات تقول إن التنظيم يُترك لينمو حيناً، ويُضرب حيناً آخر وفق الحاجة السياسية.
غير أن التحليل الواقعي يُظهر صورة مختلفة. فالعقيدة الأمنية الأميركية، عبر الإدارات المتعاقبة، ثابتة إلى حد كبير: أي استهداف مباشر لأفراد أو أصول أمريكية يستدعي رداً سريعاً، قاسياً، وغير متناسب، ليس بالضرورة في إطار استراتيجية مكافحة شاملة، بل في إطار تثبيت الردع وإعادة رسم الخطوط الحمراء. وعليه، فإن عملية «عين الصقر» تُفهم أولاً كرسالة ردعية انتقامية، أكثر منها تعبيراً عن انتقال نوعي في استراتيجية الحرب على تنظيم الدولة.
هذا لا يعني أن التنظيم لم يكن موجوداً قبل ذلك، ولا أن الولايات المتحدة لم تكن على دراية بنشاطه، بل يعني أن التعامل معه كان جزءاً من إدارة مخاطر محسوبة، إلى أن تحوّل التهديد إلى استهداف مباشر للأميركيين. الفارق هنا جوهري بين جهد أمني طويل النفس، يحتاج إلى شراكات محلية وبناء قدرات، وبين رد عسكري فوري غايته الردع والقصاص.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل موقف الدولة السورية الجديدة، التي أعلنت التزامها بمحاربة تنظيم الدولة، ودعت صراحة الولايات المتحدة والتحالف الدولي إلى منع تحوّل الأراضي السورية إلى ملاذات آمنة للتنظيم. هذا الموقف لا يُقرأ كخطاب سياسي فقط، بل كإقرار واقعي بحجم التحدي الذي تواجهه دمشق في مرحلة انتقالية معقّدة، حيث ما تزال مؤسسات الدولة في طور إعادة البناء، وتفتقر إلى أدوات السيطرة الكاملة على الجغرافيا، خصوصاً في مناطق صحراوية شاسعة شكّلت تاريخياً بيئة رخوة لعمل التنظيمات المتطرفة.
إدارة الرئيس أحمد الشرع ورثت دولة منهكة، وأجهزة أمنية وجيشاً أعيد تشكيلهما في ظل ظروف استثنائية، وهو ما يفسّر محدودية الدور العسكري السوري في العمليات الأخيرة. لكن هذا الواقع لا يعني غياب الإرادة، بل يعكس فجوة قدرات مؤقتة، يجري العمل على معالجتها عبر مسار سياسي وأمني تدريجي، يراهن على استعادة الدولة لوظيفتها المركزية، لا على إدارة الفوضى أو التعايش معها.
تبدو الكفة مائلة لمصلحة الرؤية الأولى، خاصة في ظل وجود إدارة أميركية تميل، على الأقل مرحلياً، إلى إعطاء فرصة للحكم الجديد في دمشق، مدعومة برغبة إقليمية في إعادة دمج سوريا اقتصادياً وسياسياً.
أما المشاركة الأردنية، فهي امتداد طبيعي لدور عمّان في التحالف الدولي، ولحساسيتها الأمنية المباشرة تجاه الجنوب السوري. الأردن لم ينتظر الضربة الأميركية ليبدأ التحرك، بل كان منخرطاً في مواجهة أنشطة التهريب والتسلل عبر الحدود خلال الأشهر الماضية. غير أن مشاركته الجوية في «عين الصقر» حملت بعداً إضافياً: تأكيد الجاهزية، وتذكير بأن التنظيم يشكّل تهديداً مباشراً للأردن، الذي ما زالت ذاكرة حادثة إحراق الطيار الأردني حاضرة في وعيه الأمني والسياسي.
يبقى السؤال الأهم: هل تركت الولايات المتحدة فراغاً أمنياً سمح للتنظيم بالنشاط؟ جزئياً نعم، لكن ليس بدافع التوظيف، بل نتيجة تردد أوسع في حسم العلاقة مع الدولة السورية الجديدة. داخل واشنطن، تتقاطع رؤيتان: واحدة ترى أن دعم سلطة مركزية سورية قوية، مستقرة، وقادرة على ضبط أراضيها، يخدم المصالح الأميركية ويحدّ من تمدد الفوضى. وأخرى متشائمة، تفترض أن سوريا مقبلة على مرحلة عدم استقرار طويل، وتفضّل إدارة المشهد عبر توازنات محلية متناثرة، بما ينسجم مع القراءة الإسرائيلية للأمن الإقليمي.
حتى الآن، تبدو الكفة مائلة لمصلحة الرؤية الأولى، خاصة في ظل وجود إدارة أميركية تميل، على الأقل مرحلياً، إلى إعطاء فرصة للحكم الجديد في دمشق، مدعومة برغبة إقليمية في إعادة دمج سوريا اقتصادياً وسياسياً. من هنا، فإن استمرار تنظيم الدولة كتهديد كامن لا يخدم هذه المقاربة، بل يضعفها، ويفرض على واشنطن عاجلاً أم آجلاً الانتقال من منطق الضربات الظرفية إلى منطق الشراكة الأمنية الفعلية.
الخلاصة أن ما جرى في «عين الصقر» لا يؤسس لعودة تنظيم الدولة، ولا يؤكد نظرية إدارته من الخارج، بل يكشف هشاشة المرحلة الانتقالية، وحجم التحدي أمام سوريا الجديدة. والرهان الحقيقي اليوم ليس على الغارات، بل على قدرة الدولة السورية، بدعم إقليمي ودولي، على ملء الفراغ، واستعادة السيادة الأمنية، وتحويل محاربة الإرهاب من رد فعل خارجي إلى وظيفة سيادية داخلية. هنا فقط، يُغلق الباب فعلياً أمام التنظيمات المتطرفة، وتُسحب الذرائع من دعاة المؤامرة قبل غيرهم.
- تلفزيون سوريا



























