تمر سوريا بمرحلة انتقالية صعبة ومعقدة، على صعيد الدولة أو المجتمع أو الأفراد، خصوصاً في المجالين الأمني والسياسي الداخليين، ما يعني أنها ليست مرحلة انتقالية طبيعية، أو عادية، كتجارب بلدان أخرى خاضت حروباً خارجية أو داخلية، وانتهت بفوز طرف واحد على آخر، وامتلاكه زمام الأمور، كما انها ليست حالة انتقال من سلطة الى سلطة، بل هي أكبر وأخطر وأكثر تعقيداً من كل ذلك.
سقط نظام “الأبد” الذي تحكم بالبلد أكثر من خمسة عقود، نعم، سقط فجأة، بعد 14 عاماً من بداية ثورة آذار في عام 2011، وبعد صراع مع أطراف سورية عديدة، لم تكن تمتلك أجندة أو أهداف واحدة في مواجهته، حتى نال منها اليأس. لهذا، ما حدث في 8/ ديسمبر كانون الثاني من عام 2024 بجهود- شبه خالصة- لجبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) كان أشبه بزلزال، قلب كل الموازين، في السياسة والثقافة والاقتصاد، وعلاقة الناس بالدولة، وببعضهم البعض كمجموعات وأفراد، وبتعريفهم لذاتهم، ولاصطفافاتهم، الفردية والجمعية.
وما يحدث اليوم من نزاع على السلطة تقوده أطراف داخلية متعددة (بعضها يتحرك بناء على أجندات ورغبات سلطوية محلية ضيقة، وبعضها له مصالح تتقاطع مع جهات خارجية)، ضد الحكومة السورية الجديدة التي تحاول بسط سيطرتها الأمنية والمؤسساتية على كامل الأرض السورية، يسهم بشكل مباشر في تعطيل الاستقرار المطلوب على مختلف المستويات والقطاعات لتحريك عجلة مسار التعافي، ما يعني أن التحديات الداخلية في سوريا باتت أكثر إعاقة من التحديات الخارجية، التي تجاوزت السلطة الحالية معظمها بنشاط رئاسي ودبلوماسي مرموق، وبرغبة عربية وإقليمية ودولية غير مسبوقة، لتهدئة الوضع السوري وتعزيز استقراره.
إلا أن الاستخدام السلبي للتنوع الطائفي والاثني السوري، من قبل الأطراف المتصارعة أسهم في تحويل هذا التنوع إلى أداة لترويع السوريين، حيث باتت التفجيرات الإرهابية الدموية أشبه “بصندوق بريد” تستخدمها المجموعات المتطرفة (لا يختصر التطرف على الدين) كشكل من أشكال إعلان التمرد على الدولة، من جهة، كما تستخدمها الأذرع المحلية للجهات الخارجية من جهة أخرى، لبث الفوضى والخوف بين السوريين، ولمنع تشكل الدولة المستقرة، ما يخدم استمرار رغبة دول إقليمية بالتدخل تحت عناوين الدفاع عن مجموعات تعنيها، أو أخرى تحاربها.
لا شك أن العمليات الإرهابية من مثل تفجير كنيسة مارإلياس في منطقة الدويلعة (22/6)، وقتل عناصر من قوات الأمن السوري وجنود أميركيين في تدمر (13/12)، والتفجير الإرهابي الذي طال مسجد الإمام علي في حمص (26/12)، تشكل عاملاً إضافياً لخلق حاجز نفسي عند بعض المكونات المجتمعية، ما يمنعها من الاندماج مع محاولات الدولة لردم الخلافات التي نشأت في عهد النظام السابق، وذلك للمضي في جسر ما خلفته سياساته من تفاوت حقوقي بين المواطنين، وافتقاد الشعور بالمواطنة المتساوية، الأمر الذي يستدعي من الدولة وضع آليات عمل لإعادة بناء الثقة بين السوريين، على صعيد الأفراد والجماعات وترسيخ متطلبات العيش المشترك، للتخلص من التعصب الهوياتي والتطرف الأيديولوجي، وكل الامراض التي كرسها وعززها النظام القمعي السابق.
إن مجمل هذه التشوهات المجتمعية تشكل بيئة خصبة مواتية للاستغلال، وهذا فعلياً ما يحدث اليوم في الساحل والسويداء ومناطق متفرقة من تلك التي تحكمها “قسد”، حيث يستغل بعض المتضررين من سقوط النظام الظروف الصعبة للفئات المهمشة تاريخياً، لإثارة الفتن بهدف تقويض عملية الاستقرار، كما يضاف إلى ذلك دور العناصر والتشكيلات المتطرفة “المحلية والأجنبية”، التي تؤجج الخلافات الداخلية، عبر اللعب على واقع انعزالي “مصطنع” للطوائف، والتحريض المتبادل بينها، واستثمار ذلك في عمليات إرهابية تستهدف فيها رموز السوريين الدينية والقومية لإيقاع الفتنة بينهم.
وأمام هذا الواقع المعقد، بما ينطوي عليه من تداخلات خارجية وخلافات المحلية، لا يبدو أمام الدولة السورية سوى الاستمرار في سياسة الاحتواء لكل الطوائف السورية، لتحصين البلد، من محاولات التخريب بكل اشكالها، وضمنها من العمليات الارهابية، ويقوم هذا النهج على الحصانة الداخلية، والشرعية المجتمعية. وهذه، تبناها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في حواره مع شخصيات من الطائفة العلوية، حيث أكد أن الدولة تقوم على قواعد المواطنة المتساوية، والثقة المتبادلة، والقابلية للعيش المشترك في دولة قانون ومؤسسات.
هذه الأساسيات ليست شرطاً لمكافحة الإرهاب فحسب، بل هي من شروط بناء الدولة والمجتمع. فالقصد أن محاربة الارهاب تبدأ، أو تتأسس على تحصين الداخل، وجعل المجتمع يرفض الانسياق وراء التهم الجاهزة للتحريض على الدولة، لأن المواجهة تقوم على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وقيم اخلاقية، تسبق أي خطط امنية، رغم أهمية الأخيرة وضرورة تكثيفها، والحزم في تنفيذها.



























