يمكن قراءة تفجير مسجد الإمام علي بن أبي طالب في حي وادي الذهب بمدينة حمص بوصفه حدثاً أمنياً محدوداً في شكله، لكنه في جوهره يحمل دلالات تجعله إشارة بنيوية خطيرة إلى احتمال عودة نمط من العنف عرفته سوريا جيداً خلال سنوات الثورة السورية، سواء أكانت مدفوعة من نظام الأسد، أو تبنتها تنظيمات متطرفة، وهو نمط مواسم التفجيرات الإرهابية ذات البعد الطائفي. اختيار الهدف لم يكن عشوائياً ولا تقنياً، بل ضربة رمزية تلعب على وتر الدين والهوية والخوف الجماعي أكثر مما تستثمر في تحقيق مكسب عسكري مباشر، شبيه باستغلال نظام الأسد لتفجير جامع الإيمان في حي المزرعة في آذار/مارس 2013، حين استُهدف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، في روايته الإعلامية حول مكافحة الإرهاب والتطرف.
يعيد الآن استهداف مسجد شيعي في حي ذي غالبية علوية استحضار مرحلة 2012–2016، حين كانت المساجد والكنائس والأسواق (تفجير منطقة الزاهرة 2012 ) تتحول إلى مسارح للرعب المقصود، بهدف إحداث صدمة نفسية جماعية، وكسر الإحساس بالأمان خصوصاً في الفضاءات الدينية، وإعادة إنتاج الخوف كأداة حكم أو فوضى منظمة. في هذا السياق، لا يمكن فصل العملية عن الجهة التي أعلنت تبنّيها، أي “لواء أنصار السنة”، ولا عن اللحظة السياسية-الأمنية الحساسة التي تمر بها البلاد في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، حيث ساد اعتقاد بأن العنف سيتراجع إلى أنماط أقل ظهوراً، مثل الاغتيالات الانتقائية-الانتقامية أو الاشتباكات المحلية المحدودة أو صراعات النفوذ الصامتة. غير أن التفجير يمثّل تصعيداً نوعياً ينقل العنف من مستواه المنخفض والخفي إلى عنف استعراضي عالي التأثير، وهو السمة الكلاسيكية لبدايات مواسم التفجيرات في الفترات الانتقالية في معظم الدول التي تجري فيها تحولات سياسية أو عسكرية. الأهم من ذلك أن هذا النوع من العمليات يؤدي وظيفة مزدوجة؛ فهو من جهة اختبار أمني مباشر لقدرة الدولة الجديدة على ضبط الفضاء العام وحماية الأقليات، ومن جهة أخرى اختبار أخلاقي وسياسي لحياد أجهزتها وسلوكها في لحظة شديدة الحساسية، حيث يسعى منفذو العنف إلى دفع السلطة نحو ردود فعل قمعية أو انتقائية تعيد إنتاج الانقسام بدل احتوائه.
بهذا المعنى، لا يستهدف التفجير ضحاياه المباشرين فقط، بل يستهدف مشروع الدولة ذاته، عبر ضرب ثقة المجتمع بقدرتها على توفير الأمان، وإعادة فتح الجرح الطائفي بوصفه أداة لتقويض المرحلة الانتقالية من الداخل.
الارتباط بالصراع الطائفي
يرتبط تفجير وادي الذهب بالطائفية في سوريا ارتباطاً عضوياً، لا بوصف الطائفية خلفية ثقافية أو هوية اجتماعية فحسب، بل بوصفها أداة سياسية-أمنية مُعاد تفعيلها في لحظة انتقالية هشّة؛ على اعتبار أن اختيار الهدف يكشف بوضوح أن الطائفة سبقت المكان في حسابات الفاعلين؛ إذ لا يمكن فصل استهداف المسجد عن رمزيته الدينية الشيعية، ولا عن تاريخ وادي الذهب كحي ذي غالبية علوية وشيعية مرتبطة بنظام الأسد من خلال توظيف أبنائه ( و هم من الطبقة الوسطة والعاملة في البلاد) في القوات الرديفة لجيش الأسد وشبيحته من قبيل اللجان الشعبية و كتائب الدفاع الوطني، ولا عن الذاكرة الجمعية لمدينة حمص التي كانت إحدى أكثر المدن السورية تعرضاً للتفجيرات والمجازر ذات الطابع الطائفي خلال سنوات الثورة السورية. هنا، لا تُستخدم العبوة الناسفة بوصفها وسيلة قتل فقط، بل بوصفها لغة سياسية تُوجَّه إلى جماعة بعينها، مفادها أن الأمان مرفوع عنها حتى داخل أماكن العبادة، وأن الحماية الرمزية للدين والمقدس لم تعد قائمة. يَستثمر هذا الخطاب العنيف مباشرة في هشاشة البنية الاجتماعية السورية الخارجة من حرب طويلة، حيث لا تزال الذاكرة الطائفية مثقلة بالقتل والتهجير، والمجتمعات المحلية عاجزة عن إنجاز مصالحة حقيقية تتجاوز التسويات الشكلية، فيما تبقى العدالة الانتقالية غائبة أو غير مكتملة، بما يسمح ببقاء الجراح مفتوحة وقابلة للاستثمار. في مثل هذا السياق، يعمل التفجير الطائفي كمفتاح يعيد كشف خطوط تصدعات قديمة أُغلقت بالقوة، لا بالمعالجة الجذرية ووسائل العدالة الانتقالية، فيتحوّل حادث واحد إلى لحظة استدعاء جماعي للخوف والشك والاتهام المتبادل.
الأخطر أن الطائفية هنا لا تُستخدم بوصفها تعبيراً عن كراهية عفوية، بل كـأداة تفكيك اجتماعي مقصودة؛ إذ تهدف مثل هذه العمليات إلى دفع المجتمعات إلى الانكفاء داخل هوياتها الضيقة، وتشجيع خطاب الحماية الذاتية وطلب الحماية الدولية على حساب فكرة الدولة، وبالتالي السعي نحو إعادة إنتاج الميليشيا أو الجماعة المسلحة بوصفها ضمانة وجود في مواجهة الخطر. بهذا المعنى، يصبح التفجير أخطر من حصيلته البشرية المباشرة (18 قتيلاً وأكثر من 20 جريحاً)، لأنه يهدد بإعادة تنظيم المجتمع على أسس خوف وانقسام، ويقوّض أي أفق لبناء فضاء وطني جامع في مرحلة ما بعد الحرب.
تكرار سيناريوهات إقليمية
يمكن مقاربة المشهد السوري الراهن بوصفه إعادة إنتاجٍ مبكرة لمسارٍ عاشه العراق في منتصف العقد الأول من الألفية، لا باعتباره عودة مكتملة إلى حرب طائفية شاملة، بل كمرحلة إنذار بنيوي سبقت في العراق انفجار العنف بين عامي 2006 و2007. بهذا المعنى، لا تُقاس خطورة ما يجري في سوريا اليوم بحجمه الكمي أو بعدد العمليات التفجيرية الإرهابية، بل بوظيفته الرمزية والسياسية التي تشير إلى نمط عمليات نوعية محدودة، مشحونة دينياً، تختبر قابلية المجتمع والدولة للانزلاق، تماماً كما فعلت التفجيرات والاغتيالات الرمزية في العراق قبل بلوغ الذروة. فالعراق آنذاك لم يدخل الحرب الطائفية دفعة واحدة؛ بل مرّ بسلوك تمهيدي محسوب، حيث كسر المحظورات النفسية وأعاد إدخال فكرة الاستهداف الطائفي إلى المجال العام، قبل أن تتوافر شروط التوسّع والانفجار. هذا ما يجعل المقارنة مع سوريا اليوم ذات قيمة تحليلية عالية، لا بوصفها تطابقاً زمنياً، بل بوصفها تحذيراً استباقياً من مسار سبق أن عُرف وانتهى بكلفة كارثية.
تتجلى هنا طبيعة الإشارات السورية الراهنة على نحو يذكّر بالعراق في تلك المرحلة؛ حيث لدينا انتقالٌ مدروس من استهداف الأفراد إلى استهداف الكتل والرموز الدينية؛ فبدل المواجهات الواسعة، تظهر عمليات تضرب دور عبادة، أو شخصيات متجمعة، أو مناسبات دينية، بما يحمل رسالة تتجاوز الفعل نفسه. في العراق، سبقت التفجيرات الكبرى تهديدات للمزارات، واغتيالات ذات دلالة، وخطاب تحريضي كثيف أعاد تعريف الخصم بوصفه هوية لا فاعلاً سياسياً، واليوم، في سوريا، تتكرر الآلية ذاتها، فلدينا استهداف رمزي يهدف إلى كسر عتبة الخوف الأولى، وتطبيع فكرة أن الانتماء الطائفي بحد ذاته يمكن أن يكون سبباً كافياً للعقاب. ويترافق ذلك مع عودة خطاب الانتقام السني المؤجل وصياغات المظلومية السنية، التي لا تُترجم فوراً إلى موجات عنف شاملة، لكنها تؤدي وظيفة أخطر على المدى المتوسط؛ من حيث وجود تهيئة البيئة النفسية، وتوسيع قابلية المجتمع لتقبّل العنف بوصفه رداً مشروعاً أو حتمياً.
الفارق الجوهري هنا أن العراق، بعد تجربته المريرة، يمتلك اليوم ذاكرة رادعة ومؤسسات أمنية أكثر رسوخاً، فيما تعيش سوريا مرحلة انتقالية هشّة تفتقر إلى تلك الذاكرة الرادعة بوصفها عنصر كبح، وتفتقر إلى احتكار فعلي ومستقر للعنف. في تلك المدة، دفع العراق ثمناً فادحاً حين تجاهل إشاراته المبكرة التي ظهرت على شكل تفكك اجتماعي، وتطهير مناطقي، وانهيار شبه كامل للدولة بين 2006 و2008؛ لتخلق هذه التجربة لاحقاً وعياً جمعياً بالخسارة، ومناعة نسبية حتى داخل البيئات القابلة للتطرف، إضافة إلى احتكار نسبي للعنف مكّن الدولة لاحقاً بالتكامل مع قوى منظمة من كبح عودة السيناريو ذاته. في المقابل، تواجه سوريا اليوم وضعاً معاكساً يتجسد باحتكار هش للسلاح، ومصالحة وطنية وتسوية أوضاع عسكرية غير منجزة، وعدالة انتقالية غائبة، ما يجعل سردية الخوف الوجودي أكثر فاعلية، ويمنح العمليات الرمزية قدرة أعلى على التفجير المعنوي.
ومع ذلك، تتقاطع الحالتان في عناصر بنيوية لا يمكن تجاهلها؛ ففي كلتيهما جاء التصعيد ضمن توقيت إقليمي مشحون، حيث تُستدعى الطائفية كأداة لنقل صراعات الخارج إلى الداخل ضمن منطق الحرب بالوكالة؛ كما ظهرت في العراق حينها، وفي سوريا اليوم تنظيمات مستحدثة رمادية بأسماء جديدة وخطاب متشدد، من دون بنية تنظيمية راسخة أو مرجعية عقدية ، لكنها قادرة على إحداث قلق واسع وخلط الأوراق عبر القيمة الرمزية لأفعالها. والأهم أن هذه التحركات اشتركت في هدف مركزي وهو اختبار الدولة لا إسقاطها فوراً، ودفعها إلى ردود فعل متسرعة أو انتقائية تُقوّض حيادها وتضعف ثقة المجتمع بها، تمهيداً لتوسيع دائرة الصراع.
من هنا، تبدو المقارنة الأدق هي أن سوريا اليوم تقف في موضع العراق أمس؛ أي أمام منعطف يمكن احتواؤه إذا قُرئت الإشارات مبكراً، أو تركه يتفاقم حتى يتحول إلى موجة يصعب ضبطها؛ ليكون الخطر في سوريا بنيوياً ومفتوحاً بحكم هشاشة المرحلة الانتقالية، بينما صار في العراق مكبوتاً ومضبوطاً بفضل الذاكرة والأمن والتوازن السياسي. والخلاصة أن ما يجري في سوريا ليس مجرد حدث داخلي معزول، بل استدعاء لمسار إقليمي معروف يذكّر بأن الطائفية، حين تُطلق في فضاء هش، نادراً ما تبقى محصورة أو قابلة للسيطرة.
موقف الحكومة السورية
يمكن هنا قراءة إدانة وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الإعلام حمزة المصطفى لتفجير مسجد الإمام علي في وادي الذهب بوصفها محاولة واعية للجمع بين مسؤوليتين متلازمتين في لحظة انتقالية شديدة الحساسية، فلدينا المسؤولية الأمنية أمام المجتمع الدولي من جهة، ومسؤولية ضبط الخطاب العام من جهة أخرى. فعلى المستوى الأمني، تمثل الإدانة اعترافاً سياسياً صريحاً بأن حماية المدنيين ودور العبادة تقع في صلب واجبات الدولة الجديدة، وأن أي اختراق أمني من هذا النوع لا يمكن التعامل معه بوصفه حادثاً هامشياً أو طائفياً محضاً، بل كتهديد مباشر لشرعية الدولة وقدرتها على احتكار العنف المشروع. أما على مستوى الخطاب، فإن صدور الإدانة من رأسَي الدبلوماسية والإعلام يهدف إلى توحيد الرواية الرسمية في مواجهة محاولات تطييف الجريمة أو تسييسها، ومنع انزلاقها إلى خطاب انتقامي أو تعبوي مضاد. لا تُستخدم اللغة السياسية هنا لنفي الطائفية عبر تمييع الجريمة، ولا لتبريرها عبر تحميلها سياقات عامة، بل لتثبيت إطار أخلاقي وطني واضح يرفض الكراهية ويحاصر خطاب التحريض، ويؤكد أن مواجهة الإرهاب الطائفي ليست مسألة أمنية فقط، بل معركة على المعنى واللغة والذاكرة العامة. بهذا المعنى، تشكل الإدانة اختباراً مبكراً لقدرة الدولة على الربط بين الحزم الأمني وبناء خطاب جامع، بوصفهما شرطين متكاملين لمنع تكرار العنف وإغلاق الباب أمام إعادة إنتاج الطائفية كأداة سياسية.


























