أعادت حادثة تفجير مسجد علي بن أبي طالب في حمص إلى الواجهة سؤالاً بالغ الخطورة، ولا زال غير محسوم: كيف نواجه خطاب الكراهية والطائفية في سوريا ما بعد الحرب؟ بغضّ النظر عن الجهة المنفذة التي لا تزال قيد التحقيق، فإن استهداف مسجد يجمع بين الكراهية والطائفية في شكل لا لبس فيه، والغاية واضحة تتمثل في استدراج ردود فعل أهلية، وفتح الباب أمام الفوضى، وضرب ما تبقى من الثقة بالدولة في لحظة انتقالية تتسم بالهشاشة بطبيعتها.
ابتداءً، لا يمكن أن يكون التعامل مع هذه المسألة انفعالياً أو جزئياً، فالمسألة ليست مؤقتة، ولا هي تفصيل عابر، صحيح أن الإعلان الدستوري نصّ صراحة على التزام الدولة بتعزيز التعايش والسلم الأهلي ومنع التحريض الطائفي والعنف، غير أن هذا النص، يظل إطاراً سياسياً عاماً لا يقوم مقام قانون نافذ. فهو لا يعرّف بدقة ما يُعد خطاب كراهية أو تحريضاً طائفياً، ولا يحدّد العقوبات أو آليات التنفيذ، ما يجعل تحويله إلى سياسة فعّالة مرهوناً بتشريعات لاحقة. وبالطبع هذا ليس خللاً في الإعلان الدستوري، بل انعكاس لوظيفته الانتقالية، إذ لا يُفترض به أن يحل محل القوانين.
لا تنشأ الحاجة إلى قانون لأن الإعلان الدستوري لا يتضمنه وحسب، بل لأننا إزاء مجتمع ممزق بعد ثورة وحرب دامية ارتكبت فيها كل الفظائع التي قد يتخيلها الإنسان، وشكلت خطوط الانقسام في المجتمع إحدى مسارح الحرب. الكراهية والطائفية كانتا أداتي حرب بالنسبة لنظام الأسد البائد، حاول من خلالهما تعميق الانقسام وتفتيت المجتمع والتعبئة والتحشيد، ودفع مجتمع الثورة إلى زوايا ضيقة تضعف خطابه الوطني، وارتكب مجازر كثيرة أراد أن يظهر طابعاً طائفياً متعمداً فيها، ومارس استفزازاً دينياً ممنهجاً داخل السجون، وعمل على استثارة الصراع الطائفي.
اتخذ الأسد أساليب عدة لتعزيز الطائفية، بينها المجازر الطائفية بالأسلحة البيضاء (في حماة وحمص واللاذقية وطرطوس)، والممارسات المستفزة الهادفة إلى تنمية مشاعر الحنق، مثل إكراه المعتقلين على إعلان أن بشار الأسد هو ربهم والسجود لصوره، وتعذيب الأئمة والشيوخ وإهانتهم باستخدام ألفاظ دينية، وتصفية الرموز الدينية، واستدعاء حزب الله والميليشيات الشيعية والحرس الثوري الإيراني التي كان الخطاب الطائفي ضد السنة أداتها للتعبئة والتحشيد للقتال في سوريا.
كذلك استخدام رجال دين علويين في عمليات القمع، وتطويع المؤسسة الدينية (المسلمة والمسيحية) في معركته ضد ثورة الشعب، لتعزيز انقسام المجتمع عبر استخدام سلطة الدين والهوية الدينية/الاجتماعية، إذ وجد نظام الأسد في رجال الدين والأئمة والخطباء من يستجيب له تحت الترغيب والترهيب، وأحياناً لمجرد الطمع بالامتيازات، وصلت حداً جعل وزير أوقافه عبد الستار السيد يقوم بتأليف تفسير على ضوء أفكار بشار الأسد!
لم تكن الطائفية عرضاً جانبياً في معركة إسقاط نظام الأسد، فقد كانت جزءاً بنيوياً من منظومة الحكم، لقد كان حكم الأسد بطبيعة الحال طائفياً، استخدم الطائفة لتثبيت حكمه العائلي، وشكل هذا التمييز الطائفي العملي أحد جذور الثورة، وأدى هذا التداخل بين الطائفي والدكتاتوري إلى نتيجة مفادها أن أي مواجهة مع النظام ستكون مواجهة مع الطائفية أيضاً.
لقد رفعت السياسات التي انتهجها النظام الخطاب الطائفي إلى مستوى الانفجار، خصوصاً وأنها صاحبت مقتلة وجرائم وحشية بمختلف أنواع أسلحة الإبادة الجماعية، هذا التداخل بين الاستبداد والطائفية جعل أي مواجهة مع النظام مواجهةً مع إرث طائفي متراكم، ورفع خطاب الكراهية إلى مستوى الانفجار، لذلك فإن معالجة خطاب الكراهية لا يمكن أن تبدأ في حين جراح الضحايا ما تزال مفتوحة.
لهذا السبب، فإن المدخل الأول والضروري هو العدالة الانتقالية. فالتجارب المقارنة تؤكد أن المجتمعات الخارجة من حروب أهلية لا تهدأ إلا عندما تطمئن إلى أن العدالة قادمة، وأن الجرائم لن تُطوى بالنسيان. العدالة الانتقالية ليست إجراءً سريعاً، لكنها عملية طويلة الأمد، تؤدي إلى جبر الخواطر وتهدئة النفوس ونزع فتيل رئيسي للتوتر، لقد كان تشكيل هيئة العدالة الانتقالية كان خطوة مهمة وتأكيد على التزام الحكومة الانتقالية بالعدالة، لكن فعاليتها ستبقى منقوصة ما لم تُستكمل بقانون مفصل ومحاكم مختصة.
إصدار قانون لتجريم الكراهية والطائفية أمر لا مفر منه، ولا يزال ينتظره السوريون، لكن إصدار قانون يتطلب انعقاد مجلس الشعب، وهو أمر أيضاً مطلوب لإصدار قانون العدالة الانتقالية، ولا يمكن تجاهل أن غياب مجلس الشعب يعطّل جزءاً أساسياً من الحل. غير أن الحل القانوني، حتى لو اكتمل، يظل غير كافٍ ما لم يُرفق بمعالجة سياسية وإعلامية عميقة للجذور.
أحد أخطر هذه الجذور هو الخلط المتعمد بين فلول النظام وبيئاتهم الاجتماعية أو الطائفية. هذا الخلط يجب تفكيكه بوضوح في الخطاب الرسمي والإعلامي، لأن تحميل جماعات كاملة مسؤولية سياسات نظام استبدادي لا يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الكراهية. ويجب توسيع عمل لجان السلم الأهلي والإنفاق عليها، وإشراك الوسطاء المحليين، وهس خطوات ضرورية للفصل بين المجتمع وفلول النظام، ومنع شعور أي مكوّن بأنه مستهدف جماعياً.
في المقابل، فإن استمرار تصدّر رجال دين للمشهد السياسي داخل الطوائف يعقّد هذا الفصل، ويغذي النزعة الطائفية، خاصة حين يتحول بعضهم إلى مظلة حماية لفلول النظام. تخفيف الاحتقان الطائفي يمرّ حتماً عبر إبعاد الرموز الدينية عن الصراع السياسي المباشر، وإعادة السياسة إلى مجالها المدني.
ولا تقل المعالجة الاقتصادية أهمية عن الأمنية والسياسية، خصوصاً في المناطق التي تضررت بشدة من انهيار منظومة النظام السابق، مثل الساحل السوري. غياب خطط اقتصادية مدروسة يفتح الباب أمام استغلال الفقر واليأس من قبل أطراف داخلية وخارجية تسعى لزعزعة الاستقرار. رعاية الفئات الأكثر تضرراً ليست فقط واجباً أخلاقياً، بل أداة استقرار وتوسيع للقاعدة الاجتماعية للحكم الجديد.
أخيراً، يبقى التعليم الركيزة الأعمق والأطول أثراً في مواجهة خطاب الكراهية. فبناء هوية وطنية جامعة، وتعزيز قيم المواطنة والتسامح وسيادة القانون، يبدأ من المدرسة. التعليم الأساسي ليس قطاعاً خدمياً فحسب، بل جزء من الأمن الوطني. غير أن المطلوب ليس إضافة دروس مباشرة عن التسامح، بل إعادة بناء فلسفة التعليم نفسها بما يواكب الانتقال السياسي، ويُنتج مواطناً منسجماً مع دولة القانون لا مع منطق العصبيات.
مواجهة خطاب الكراهية ليست معركة خطابية عابرة، بل مسار وطني طويل، تتقاطع فيه العدالة، والسياسة، والاقتصاد، والتعليم. وأي اختصار لهذا المسار، أو القفز فوق إحدى حلقاته، ربما يؤدي إلى إعادة إنتاج أسباب الانفجار من جديد.
- الثورة السورية



























