تطوي بلادنا هذا العام 2010 الخطة الخمسية التاسعة ، وتستعد الحكومة لإطلاق خطتها العاشرة للسنوات الخمس القادمة . وتنبسط بهذه المناسبة أمام المواطن السوري من جهة ، ومراكز البحث والدراسات التنموية من جهة أخرى حصيلة نصف قرن من التخطيط المركزي في الدولة السورية الحديثة . وبذلك تبدو سورية من أكثر الدول في العالم المعاصر اعتماداً لهذا النوع من الإدارة والحكم ، حيث يدير بضعة أشخاص في العاصمة شؤون البلاد والعباد بقرارات وتوجيهات وأوامر مركزية ، تطال كل شبر من أرض الوطن وكل مفصل من مفاصل الدولة . وكانت الخطط الخمسية في إدارة الدولة قد اكتسبت سمعة جيدة ومؤيدين على الصعيد العالمي ، تأثراً بالنجاحات النسبية التي أحرزتها النظم الشيوعية عبر هذا النوع من الإدارة عند منتصف القرن الماضي . وتم اعتمادها من قبل العديد من الدول آنذاك . ورغم خروجها من دائرة الضوء على صعيد الفعالية والإنجازات والانتشار ، فهي تستمر في آليات عمل الحكومات السورية المتعاقبة بنفس الطريقة ونفس الأسلوب رغم ثبوت تواضع الحصيلة وضعف الجدوى بحيث لا يتطابق حساب الحقل مع حساب البيدر . بل كثيراً ما جاء مناقضاً له . ونادراً ما استدعى الفشل الجزئي أو الكلي للخطط موقفاً مسؤولاً أو مراجعة أو إعادة نظر . غير أن مناسبة انتهاء خطة والشروع بتنفيذ أخرى يثير زوبعة من السجال الإداري والإعلامي تبرئة للذمة وتسجيلاً لنقاط ومواقف متبادلة ، كما يجري هذه الأيام .
للتخطيط في سورية هيئة بمقام وزارة تدعى " هيئة تخطيط الدولة " . وفي كل وزارة مديرية رئيسة تسمى " مديرية التخطيط " . وفي كل مديرية قسم خاص للتخطيط أو شعبة تتولى مهامه . وكذلك في كل محافظة أو منطقة أو بلدية . وفي الشركات العامة إنشائية كانت أم إنتاجية أم خدمية ، في الحقل الاقتصادي أو الإداري أو الثقافي ، إدارات خاصة للتخطيط ، تبرز في صدارة عمل هذه الشركات والمؤسسات . حتى النقابات و " المنظمات الشعبية " لم تخل من أقسام للتخطيط ومتفرغين له .حتى لتبدو الدولة السورية دولة تخطيط شامل . فكل شيء مخطط ، وكل مشروع أو إجراء أو توجه هو نتاج خطة أو في سياق خطة . وبالتالي لا مناص من اعتبار حصيلة الحياة العامة اليوم من إنتاج ذلك النوع من التخطيط بل من أفضاله .
وبعيداً عن التلاوم الذي يتقاذفه المخططون والمنفذون ، والتهم التي يتراشق بها النافذون في الخطط والهامشيون فيها ، والضجيج الإعلامي الذي تثيره الأرقام الرسمية المعلنة ، ففي وضع المواطن السوري وشؤونه الحياتية ، وفي الواقع الحالي للإدارة والمؤسسات خير تقييم لحصيلة عمل السلطات عموماً وجهود الخطط و المخططين على وجه التحديد .
ففي المجال الصناعي ، تبدو الصناعة الوطنية بقطاعيها العام والخاص بحالة يرثى لها . ويشهد عليها توقف بعض الصناعات وهجرة بعضها ، والموت السريري البطيء لبعضها الآخر . وانعدام السؤال عن الإنتاج والإنتاجية والمنافسة والتصدير ، ليحل محله الحديث عن الرشوة والفساد والتهرب الضريبي واقتصاد الظل .
وفي الزراعة ، ما زال الفلاح السوري تحت رحمة السماء ، رغم كثرة الخطط والمخططين بل بسببها . سنة يأكل وأخرى يجوع . موسم يستجدي به قرض المصارف ، وآخر يوفي به ديونه للدولة . وترى إنتاجه متراوحاً بين المد والجزر بشكل مأساوي يثير المرارة . فتارة تنتشر البطاطا على الأرصفة بـ " تراب المصاري " كما يقولون ، وتارة تصبح كعملة صعبة فوق متناول المستهلك ابن الشعب ، دون أن يكون للفلاح أي غنم في هذا .
أما الخدمات فلا حاجة لأدلة وبراهين على أحوالها . فالصحافة الرسمية كافية ووافية في عرض حقيقتها ، رغم تسترها على الكثير من الحقائق الجارحة .
وفي التعليم ، كانت إنجازات الخطط واضحة لكل ذي بصر وبصيرة . فانهيار التعليم الرسمي أبرز مؤشراتها . هذا التعليم الذي شكل جوهر العملية التربوية في سورية ورافعتها لعقود طويلة ، وتخرجت منه صفوة العقول والخبرات السورية ذات النوعية المرموقة . في الوقت الذي ترتفع فيه إشارات الاستفهام الكبيرة في وجه التعليم الخاص بمختلف مراحله من حيث الأهداف والمصالح والنوعية والنتائج المتحصلة .
وليست أوضاع القطاعات الأخرى أفضل حالاً . فالعقل الأوامري الاستنسابي ذاته ، والذمة المشروخة نفسها ، وقد تسترا بالخطط والتوجيهات في كل موقع .
ليست الخطط ( رغم كل ما يشوبها من عيب واختلال ) المسؤولة عن الدمار الحاصل في الحياة العامة السورية في كافة جوانبها ، إنما للمخططين الدور الأوفر في هذه المسؤولية . وليس المخططون أولئك الموظفين القائمين على المهمات الفنية هنا وهناك فقط ، بل أولئك الذين يديرون ويقررون وبيدهم الحل والربط ، أي السلطة السياسية في المقام الأول . إنها مسؤولياتهم فيما فعلوا وفيما لم يفعلوا أيضاً وكان يتوجب . لأنهم مطالبون شعبياً ومنطقياً بوقفة وطنية جادة فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية ، تعيد النظر بالتخطيط وأساليبه وأهدافه والقائمين عليه ، تحصيلاً لأوسع مشاركة بهذا الشأن ، وإطلاق يد المجتمع في التعبير عن إرادته ومصالحه وشكل إدارته لدولته ، وتأميناً لملاقاة العصر وما يتطلبه من تخطيط عقلاني ومرن ، وما يتطلبه من تغيير وتطوير دائمين للدخول في عالم التنمية الإنسانية الشاملة ، حيث التخطيط أحد العناصر المكونة .
لا تستمد الخطط أهميتها من مدتها ومركزيتها وتشعب مهامها وصيغة القسر في تنفيذها ، إنما من واقعيتها وملموسيتها وتبني الناس بالقناعة والمصلحة لمتطلباتها . فخطط الورق في أدراج المسؤولين – ومهما بدت طموحة – يأكلها التقادم ويذهب بها الإهمال . والخطط الحقيقية التي يجري تداول عناصرها ومكوناتها بين المواطنين – ومهما بدت بسيطة ومتواضعة – تصنع حياة .
24 / 4 / 2010
هيئة التحرير