في مقالة سابقة كان موضوعها “حال الديموقراطية في إسرائيل” وتواكبت مع نشر “مؤشر الديموقراطية الإسرائيلية” لعام 2009 أشرت، من بين أشياء أخرى، إلى معطى بارز ورد في ذلك المؤشر وسجل انخفاضاً في تدريج إسرائيل- المنخفض أصلاً- ضمن مؤشر حرية الصحافة، وأسفر عن انتقالها لأول مرة من فئة الدول الديموقراطية التي تتميز بوجود صحافة حرّة، إلى فئة الدول التي تتسم بوجود صحافة شبه حرّة. وجرى الإلماح إلى أن تدهور مكانة إسرائيل في مؤشر حرية الصحافة لذلك العام كان متأثراً بصورة مباشرة، إلى حدّ كبير، بالرقابة الصارمة التي مورست على عمل وسائل الإعلام الأجنبية والإسرائيلية إبان حملة “الرصاص المصبوب” العسكرية الإسرائيلية على غزة في نهاية 2008، والتي كانت تهدف أساساً إلى تكريس روايات الناطق العسكري بشأن سير تلك الحملة ووقائعها.
وقد توسلت هذه الرقابة باستنتاجات في هذا الخصوص خلصت إليها “لجنة فينوغراد”، التي تقصت وقائع “حرب لبنان الثانية” (في صيف 2006) وبـ “الدروس” المستخلصة من تلك الحرب عامة. غير أن هذا التدهور لا يعود في واقع الأمر إلى دور الرقابة العسكرية فحسب وإنما أيضاً إلى أداء هذه الصحافة، ولا سيما منذ عام 2000، في ما يتعلق بنظرتها إلى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فحتى ذلك العام كانت وسائل الإعلام في إسرائيل في معظمها تعكس، في كل ما يتعلق بتعاطيها مع المؤسسة الأمنية، تغيراً طاول بهذا القدر أو ذاك المجتمع الإسرائيلي برمته في هذا الصدد وتمثل ملمحه الأهم في ظهور بوادر تشي بتحوّل هذا المجتمع من مجتمع مُجنّد إلى مجتمع مدني، الأمر الذي مهّد الأجواء لعملية قيام عدد من الباحثين في مجالات العلوم الاجتماعية المتعددة بنقل اهتماماتهم من مسائل العلاقات بين المؤسستين العسكرية والمدنية إلى قضايا العلاقات بين الدولة والمجتمع، أي علاقات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة، بمعنى أن الجيش والمؤسسة المدنية المسؤولة عنه يقعان في إطار المجموعة ذاتها- الدولة- التي تقف بدورها في مواجهة المجتمع. وانصب جزء من هذه الأبحاث على مسائل مرتبطة بالنزعة العسكرية وبتأثير العسكرة على طابع المجتمع الإسرائيلي.
وفي رأي البروفسور يورام بيري، أحد أبرز أساتذة الإعلام في إسرائيل ورئيس “كلية روتشيلد- قيسارية للإعلام”، فإن هذا التحوّل ساهم في تعزيز نموذج- موديل “الصحافة النقدية”، والذي كان متأثراً بموديل مواز في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وقد حدّد إرهاصاته الأولى هناك في عام 1968 خلال فترة الصراع الضاري بين قوات الفيتكونغ والقوات الأميركية في فيتنام، لكنه لم يصل إلى إسرائيل إلا عقب ما سماه “صدمة حرب يوم الغفران” (حرب تشرين الأول عام 1973). ومنذ انتهاء تلك الحرب بدأت الصحافة الإسرائيلية في طرح توجه نقدي في مضمار الأمن. وعلى سبيل المثال فإن الصحافة الإسرائيلية في خضم الحرب على لبنان عام 1982 (والتي سُمّيت لاحقاً “حرب لبنان الأولى”) أقدمت لأول مرة على توجيه انتقادات في غمرة القتال والحرب، وإن كانت هذه الانتقادات برمتها قد وجهت إلى المؤسسة السياسية الإسرائيلية لا إلى المؤسسة العسكرية. وعندما نشر أحد المعلقين العسكريين في ذلك الوقت مقالة بعنوان “اصمتوا، نحن في حرب!” وكتب فيها أن “ممارسة النقد في الوقت الذي يخوض فيه جنودنا القتال والحرب تتنافى مع الروح الوطنية”، فإنه قوبل بمعارضة من جانب غالبية الصحافيين، حيث قال هؤلاء: “على العكس فإن ممارسة النقد بالذات هو ما يتعين علينا القيام به كمواطنين”، وإنه “إذا كان هناك اعتقاد بأن تلك الحرب غير مبررة وغير سليمة، فإن من واجب وسائل الإعلام انتقاد هذه الحرب الخطرة”.
وقد حدثت نقطة تحول أخرى لدى وسائل الإعلام الإسرائيلية على هذا الصعيد أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987، حيث أصبح الجيش الإسرائيلي ذاته عُرضة للنقد. وفي هذه المرة لم يوجّه النقد إلى المؤسسة السياسية فحسب، وإنما أيضاً إلى الجيش نفسه. وانعكس ذلك بداية في النقد الذي وجهه اليسار الإسرائيلي (الصهيوني) بشكل أساسي إلى الممارسات والأعمال العنيفة للجيش في المناطق المحتلة (الضفة والقطاع) إزاء السكان المدنيين، ثم بعد ذلك بات، في معظمه، صادراً من جانب اليمين بالذات، وقد شفّ عن الاحتجاج جراء فشل الجيش في القضاء على “التمرّد الفلسطيني”. وعموماً يمكن القول إن الجيش، بقادته وجنوده، كفّ عن كونه “بقرة مقدسة”، وصار هدفاً مشروعاً للنقد العام في وسائل الإعلام، بغض النظر عن جوهر هذا النقد ودوافعه. ونالت هذه العملية دفعة قوية في تسعينات القرن العشرين، واتسع النقد للجيش في مواكبة الشعور بأن إسرائيل ولجت عهداً من السلام، وبناء على ذلك تمت لأول مرة مناقشة موضوعات غير مسبوقة وجرى التطرق إلى وحدات عسكرية كانت لغاية ذلك الوقت خارج نطاق النقد، وباتت هذه الوحدات والفرق الخاصة وسلاح الجو وجهازا الأمن العام (الشاباك) و”الموساد”، عرضة للنقد. وإذا كانت نسبة مئة في المئة من التقارير عن الجيش الإسرائيلي، التي نُشرت في فترة الخمسينات ضمن ملاحق نهاية الأسبوع لصحيفتي “يديعوت أحرونوت” و”معاريف” الأوسع انتشاراً، إيجابية في طابعها ومضمونها، فإن نسبة ثلثي التقارير المنشورة في التسعينات حول موضوعات ترتبط بالجيش أصبحت سلبية. ولعله يمكن اعتبار ذلك، وفقاً لبيري، بمثابة دليل قاطع على عملية تحول عميقة من مجتمع مجند إلى مجتمع مدني. وبحسب أقواله فإن عمليات الديموقراطية في المجتمع العصري أدّت إلى توسيع نطاق مشاركة المواطنين في تحديد وتقرير مصيرهم في نواح حياتية مختلفة، وباتت تُسمع أكثر فأكثر مطالبة المواطنين بحقهم في المشاركة في تقرير مصيرهم حتى في المجال الأمني، الذي يشكل تعبيراً مباشراً للدولة. وهذا المطلب بالتضمين يستند إلى الرأي القائل بأن المشاركة هي جوهر الديموقراطية ومضمونها. ووفقاً لهذا المفهوم فإنه لا يجوز للمؤسسة العسكرية أن تحتكر الحقيقة، ذلك بأن الحقيقة هي ملك للجمهور قاطبة. ولذا فإن من حق المواطنين التدخل والتأثير في جميع المجالات التي تم إقصاؤهم منها حتى ذلك الوقت. وبهذا المعنى فإن وسائل الإعلام تعكس عملية الدمقرطة الشاملة. مع ذلك فإنه رأى أنه لا بُدّ من إبداء بعض التحفظ والقول إن ثمة فارقاً واضحاً بين تدخل وسائل الإعلام في موضوعات متعلقة بالفرد والرفاه الاجتماعي والإدارة وشروط الخدمة، وبين تغطية صحافية وانتقاد لموضوعات مرتبطة بجوانب إستراتيجية، ذلك بأنه في مثل هذه الموضوعات تكاد وسائل الإعلام أن تعدم أي تأثير تقريبا.
بطبيعة الحال فإن الأبحاث الإسرائيلية التي تقول بهذا التحوّل تتبنى مقاربة تعتبر أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ظهرت وتطورت في فترة “الصراع من أجل الاستقلال الوطني”، وعادة فإن موديل الصحافة في ظل هذه الفترة يتسم بدور الصحافة المتجَنّدة، بمعنى أن الصحافة ليست مجندة وحسب، وإنما أيضاً متجندة طوعاً. وطبقاً لهذه الأبحاث فإن هذا الموديل منتشر في المجتمعات النامية التي تمر في مرحلة بناء وتكوّن الأمة (Nation Building)، ويمكن ملاحظته الآن لدى المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع على سبيل المثال. وفي المجتمعات التي تمر في مرحلة بناء الأمة، تتولى الزعامة السياسية تحديد الأهداف الجماعية والمصلحة العامة، وذلك بحجة أنها هي التي تعرف ما يحتاج المجتمع إليه. وفي هذا النموذج هناك دور محدد للصحافة ووسائل الإعلام، يتمثل في المساهمة في عملية التعبئة الوطنية من أجل الأهداف القومية. وهذا النمط من السلوك عبّر عن نفسه بشكل جليّ في أحد اللقاءات الأولى التي عقدها ديفيد بن غوريون، مؤسس الدولة الإسرائيلية، مع صحافيين في تل أبيب عام 1953. وقد حدد بن غوريون في ذلك الوقت دور الصحافيين بحسب مفهومه، حيث قال: “عليكم أن تعرفوا كيف يجب أن تعززوا لدى الشعب الخصال والصفات المطلوبة لزيادة وتعزيز قدرة العمل ومردوده، ولإنعاش التصدير والاقتصاد، والارتقاء بمستوى الثقافة والقدرة لدى أبناء الشبيبة، وتدعيم قدرة الجيش الإسرائيلي وبأسه وولائه. وإذا ما قمتم بذلك فإنكم ستؤدون الرسالة والغاية المخلصة لإسرائيل وللشعب اليهودي بأسره”، أي أن لوسائل الإعلام في عملية بناء الأمة دوراً تربوياً يساعد القيادة السياسية والدولة في الوصول إلى المجتمع وفي تجنيده وتشكيله بمقتضى الأهداف المحددة. وفي هذه العملية فإن المصلحة الجماعية تعلو على حقوق الفرد والمواطن، وهي مفاهيم كانت غريبة على المجتمع الإسرائيلي في سنواته الأولى. ومن الناحية العملية فإن المتطلبات الأمنية شكلت ذريعة في يد الدولة الإسرائيلية للحد من حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة. وعلاوة على ذلك فإن المتطلبات الأمنية وفرت ذريعة للدولة من أجل تقوية وتعزيز مكانتها في مواجهة المواطن والمجتمع المدني.
وكان أحد هؤلاء الباحثين، وهو أستاذ الإعلام والخبير القانوني موشيه نغبي، قد وصف الصحافة في إسرائيل في عام 1985 بأنها “نمر من ورق”، لأنها منذ البداية تنازلت عن تحصين حقوقها في تشريعات قانونية. وقد أجرى مقارنة بين دور الصحافة الإسرائيلية خلال حرب تشرين الأول عام 1973 ودورها خلال حرب لبنان عام 1982 وأورد الاستنتاجات التالية:
– في حرب 73 تواطأت هذه الصحافة مع المؤسسة العسكرية وامتنعت من نشر تقارير تتعلق بجهوزية الجيشين المصري والسوري، حتى أنه قبل ثلاثة أيام من اندلاع الحرب عقد لقاء بين “لجنة محرري الصحف” وبين رئيس هيئة أركان الجيش العامة في ذلك الوقت الجنرال ديفيد إليعازار، وطلب الأخير من المحررين التكتم على تقارير الصحافة الأجنبية التي بدأت تتحدث عن تلك الجهوزية. وبذا فإن هذه الصحافة كانت جزءاً من التقصير (المحدال).
– في حرب 82 اختلف دور هذه الصحافة، وتمثل ذلك أكثر شيء في: أ- قيامها بكشف النقاب عن معارضة بعض أفراد الوحدات القتالية وبعض قادة الجيش (مثل الضابط إيلي غيفـع) اقتحام بيروت؛ ب- مساهمتها في إماطة اللثام عن مجزرة صبرا وشاتيلا.
ولدى تطرقه إلى القيود المفروضة على هذه الصحافة رأى هذا الباحث نفسه أن أول القيود هو القانون الموروث عن أنظمة الطوارئ البريطانية والذي يخوّل وزير الداخلية الإسرائيلية صلاحية إغلاق أي صحيفة أو مجلة، أمّا أكبر هذه القيود وأخطرها فهو الرقابة العسكرية “التي تتسم بطابع أكثر شمولية وأشد تعسفاً من أي دولة ديموقراطية في العالم”.
لكن لدى العودة إلى الدلالات المترتبة على عام 2000 فإن يورام بيري يرى أن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اندلعت في أواخر أيلول 2000، أوجدت تناقضاً شديداً مع العملية التي جرى وصفها في ما يتعلق بتحوّل المجتمع الإسرائيلي من مجنّد إلى مدنيّ. فقد انجرف الإسرائيليون في تيار “الوطنية” وعادوا إلى التكتل حول الراية الأمنية وإلى الالتفاف حول الزعامة السياسية للدولة، بصورة لا ترقى إليها الشكوك أو التساؤلات. وهذه الظاهرة ليست منحصرة في إسرائيل فقط، وإنما برزت أيضاً بدرجة لا تقل عنها في الولايات المتحدة الأميركية أيضاً في إثر هجمات الحادي عشر من أيلول 2001. وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام تأثرت بهذه الأجواء الناجمة، لكنها في الوقت نفسه شكلت عاملاً مهماً في تكوّن هذه الأجواء وتأجيجها. وتعكس طريقة تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية لما يجري في المناطق الفلسطينية، على مدار الفترة التي انقضت منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، صورة جزئية جداً للوضع. وهي صورة مغايرة تماماً للصورة التي تصل إلى أماكن أخرى في العالم. وباستثناء صحيفة “هآرتس” التي تدفع ثمن تغطيتها بالتعرض لحملة انتقادات عامة، بما في ذلك تضاؤل عدد المشتركين فيها، فإن باقي وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية لا تحاول مطلقاً عرض الصورة المركبة على اختلاف أبعادها وجوانبها. وإذا كان هذا السلوك يدل على شيء فإنه يدل على أن وسائل الإعلام في إسرائيل تجانب وتنحرف عن دورها المركزي في مجتمع يدعي أنه ديموقراطي، وهو الدور الذي يتطلب منها أن تكون عامل إعلام (اطلاع) وناقد في الوقت ذاته، وأن تطلع الجمهور العريض قدر المستطاع على الصورة الشاملة للتطورات والأحداث الإخبارية المركزية.
(باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- “مدار”)
“النهار”