غسان شربل
لنترك حساسيات البارحة وحفنة السنوات الأخيرة. الاستسلام لها يوقع السياسات في أقفاص صغيرة. يعطل الحاضر ويفخخ المستقبل. هذا يصدق على العلاقات داخل الدول ذات التركيبة المتنوعة. ويصدق ايضاً على العلاقات بين الدول المتجاورة. فالتخاطب داخل الدول لا يمكن ان يتم على قاعدة المنتصر والمهزوم والقوي والضعيف ولا بلغة الاستئثار او الإملاءات او الرفض المطلق لما تغير وتجاهل ميزان القوى والحقائق الديموغرافية والسياسية . لكنه لا يمكن ان يتم ايضاً بتجاهل المخاوف المشروعة من روح الثأر او الرغبة في التهميش ومعالجة ظلم سابق بالتأسيس لظلم لاحق. لا يبنى مستقبل الدول بحجارة الاستقواء وتصفية الحسابات او التعلق بصيغ لم يعد الواقع يسعف قيامها او استمرارها بل يبنى بلغة منتصف الطريق والتعامل بواقعية مع المتغيرات والتعامل بمسؤولية وطنية مع المخاوف التي تثيرها المتغيرات. ومرة جديدة يمكن القول ان هذا يصدق داخل الدول وبينها.
الوضع العراقي صعب. وخطر. ومفتوح على احتمالات مقلقة. ليس بسيطاً ان تعجز القوى السياسية عن تشكيل حكومة على رغم مرور ثمانية اشهر على انتخابات نيابية سلمت بنتائجها. لم يعد سراً ان الأمر يتعلق بأزمة عميقة بين المكونات. ازمة ثقة تتخطى حدود تفسير النصوص الدستورية. وإذا تركنا جانباً ما يتعلق بالمكون الكردي فإن الأزمة الحالية تختصر بالآتي: اي دور سيلعبه المكون العربي السني في العراق الجديد؟ وهل يكون هذا المكون شريكاً فعلياً وحقيقياً ام ان عملية اشراكه ستتعلق بالديكور اكثر من الجوهر؟. ان الرد على هذا السؤال يساعد على فهم المرحلة العراقية المقبلة لجهة العلاقات بين المكونات في الداخل ويساعد على فهم طبيعة العلاقات التي ستقوم بين بغداد وعدد من العواصم في المنطقة . فالرد سيشير الى مدى التوجه نحو التوازن في الداخل وكذلك التوازن في العلاقات على مستوى الإقليم.
دروس البارحة شديدة الوضوح. ادارة العراق من خارج لغة الاعتراف المتبادل بالحقوق والمخاوف تجعله مصدراً للخطر على نفسه ومصدراً للخطر على جيرانه. لدول الجوار مصالح في العراق ولديها مخاوف من افتقار المكونات هناك الى «خريطة طريق» تؤدي الى صيغة استقرار طويلة الأمد. الدروس نفسها تشير الى ان محاولة ادارة العراق من الخارج صعبة وخطرة. وإلى ان الصيد في الاضطراب العراقي يشبه الصيد في حقل من الألغام. وإذا كان الاستقرار العراقي يستلزم تبادل الاعتراف بين المكونات بالحقوق والمخاوف فإن الاستقرار نفسه يحتاج الى تبادل الاعتراف بين القوى المؤثرة في العراق بالمصالح والمخاوف.
لا غموض حول ملامح الحل. في الداخل عراق ديموقراطي يتعايش فيه المكونان العربي والكردي استناداً الى الدستور وعراق يتسع لشراكة فعلية بين المكونين الشيعي والسني تشكل رداً قاطعاً على الفتنة المدمرة التي هبت رياحها اصلاً من تمزق النسيج العراقي. والحل في الخارج عراق عربي فاعل في محيطه وأمته لا يبنى على قاعدة العداء لإيران ولا يدار من طهران. واضح ان العراق المعادي لإيران لن ينعم بالاستقرار. واضح ايضاً ان عراقاًَ يدار من طهران هو عراق لن ينعم بالاستقرار.
يبحث العراقيون عن العراق لاستعادته من انياب الفتنة او التدخلات. لا يملكون وطناً آخر. يبحث العرب عن العراق لأن ضياعه مشكلة قد تتحول نكبة. الواقعية هي المفتاح لإنجاح البحث في الداخل والخارج. ومع الواقعية الاعتراف المتبادل. في هذا السياق تشكل مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز فرصة. باستطاعة القوى العراقية الإفادة من ثقل السعودية العربي والإسلامي والدولي ومن صدقية ملكها. عباءة الجامعة العربية مهمة ايضاً خصوصاً ان القرار الأخير هو للعراقيين. حان موعد العثور على العراق. انه حاجة لأبنائه وأمته ولإعادة قدر من التوازن الى محيطه المسكون بذكريات الأمبراطوريات وما يتركه أفولها من مرارات.