ما جرى في كنيسة سيدة النجاة بحي الكرادة في قلب بغداد يوم الأحد 31 / 10 / 2010 ليس جريمة بشعة تستحق الإدانة فحسب ، ولا عملية إرهابية مثل غيرها تستوجب الاستنكار والشجب فقط ، إنها بوضوح ساطع جريمة وطنية ضد العراق وشعبه وضد العروبة والإسلام في آن معاً ، مثلما تندرج في سياق الجرائم ضد الإنسانية .
لم يكن القتلى والجرحى والمصابين بأنواع مختلفة من الأذى نتيجة تلك العملية وحدهم المستهدفين ، إنما كان تاريخ المنطقة وأخلاقها وثقافتها ومنظومة قيمها عرضة للاعتداء أيضاً . وإذا كان المخطط الإرهابي من وراء هذه المجريمة يستهدف السريان والكلدان والآثوريين وجميع مسيحيي الشرق عموماً ، لطردهم من ديارهم وتهجيرهم في أربع أصقاع الأرض خلافاً لإرادتهم ومصالحهم ، فإن هذا المخطط ذاته ينال من استقرار المنطقة وسمعة شعوبها وتاريخها الحضاري . فالمسيحيون العرب ومسيحيو الشرق عموماً ، مثل أبناء شعوبهم الآخرين من الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى ، يشكلون جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والوطني لبلدانهم . فهم يعيشون على أرضهم التاريخية ، أرض آبائهم وأجدادهم ، ويتفاعلون بإيجابية مشهودة مع محيطهم ، مقدمين ما يتوجب على سائر المواطنين في مجتمعاتهم ومن أجل أوطانهم . وقد ساهموا عبر تاريخهم الطويل ، ومن خلال الاندماج الاجتماعي والعيش المشترك مع أبناء وطنهم المسلمين ، بإثراء الحضارة العربية الإسلامية بإسهاماتهم الثقافية والفكرية والفنية الثرة ، وإغنائها بروح التنوع والتعدد التي كانت على الدوام عامل توحيد وتواصل ، يدفع الحياة العامة على مدارج التقدم والارتقاء ، وليس عامل تفرقة وانفصال ، كما يريد التعصب والتطرف والإرهاب أن يفعل .
صحيح أن عملية كنيسة الكرادة ببغداد لم تكن أولى المؤشرات على مخطط الإرهاب والقتل الذي يستهدف التهجير ، فقد سبقتها عمليات الاغتيال لرجال الدين والتفجير للكنائس والأديرة وغيرها من أماكن العبادة كالمساجد والحسينيات ، إلا أن هذه الجريمة نوعية بكل المقاييس . فلم يحصل أن جرى استهداف جماعة دينية مسالمة عزلاء داخل بيت من بيوت الله وأثناء الصلاة والقيام بطقوس العبادة بهذا الشكل من العنف البربري ، الذي يستحق الإدانة حتى لو توجه نحو الأعداء . فكيف إذا استهدف الأهل والإخوة من أبناء الوطن ؟ !
إن مسؤولية الدول في المنطقة كبيرة جداً في مواجهة هذا المخطط والقائمين عليه ومن وراءهم ، مثلما كانت مسؤولياتها كبيرة في نشوء ظاهرة الإرهاب واستفحالها . لأن أمن هذه الدول ودورها واستقرارها في الميزان . كما أن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق القوى السياسية والاجتماعية المختلفة والمؤسسلت الدينية والثقافية وقادة الرأي والفكر ومنظمات المجتمع المدني . فلم يعد الصمت ممكناً ولا مقبولاً . لأن المخطط واضح المعالم والأهداف ، والجرائم والمجازر الجماعية تتصاعد عمقاً واتساعاً . وما يفعله المتطرفون والإرهابيون في بغداد ضد مسيحيي العراق لا يختلف كثيراً عما يفعله العنصريون والمستوطنون الصهاينة في القدس والضفة وأم الفحم ضد الفلسطينيين مسلميهم ومسيحييهم وضد كنائسهم ومساجدهم في فلسطين .
آن للإرهاب الأحمق ، الذي يزرع الخوف والموت المجاني في المنطقة ، أن يتوقف . ونعني بذلك كل أنواع الإرهاب . الإرهاب المسلح والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي ، الذي تنتجه الدول المستبدة والمنظمات المتطرفة والجماعات الطائفية والأفراد . وهو لن يفعل إلا إذا تعاضدت قوى الحرية والديمقراطية والحياة في مواجهة صناعة الموت التي تجري محاولات تأسيسها في المنطقة على حساب حياة الشعوب واستقرار المجتمعات وثقافات المنطقة ، وسمعة الحضارة العربية والإسلامية وقيمها .
2 / 11 / 2010
هيئة التحرير