عشية بدء الحلف الأطلسي طرح مشروعه للدرع الصاروخية، وبدفع من الولايات المتحدة، أقر مجلس الأمن القومي التركي تعديلاته الجديدة على “الوثيقة السياسية للأمن القومي” للبلاد، ألغت تعبير “خطر الرجعية” واعتبار أن سوريا وإيران وروسيا تشكل تهديدا أو خطرا محتملا لتركيا، وهي لذلك طرحت شرطاً لقبولها نشر الدرع الصاروخية على أراضيها. فما هو هذا الشرط؟ وما علاقة هذا التزامن بين إقرار المجلس القومي التركي لتوجهاته الجديدة ومشروع نشر الدرع الصاروخية؟ وهل من معنى لطرح أنقرة بـ “تصفير المشكلات” مع جيرانها والضغط الأميركي ـ الأطلسي على تركيا؟
منذ البداية وضعت الحكومة التركية قيادة الأطلسي أمام مأزق الـ “لعم” للقبول بمشروع الدرع الصاروخية، وهذا المأزق مرتبط بإيران و”إسرائيل” كشرطين للمشاركة فيه وهو:
اولاً، طالبت بأن لا يستهدف المشروع المذكور أي دولة بصورة علنية أو رسمية.
ثانياً، أصرتّ على “ضمانات قاطعة” بعدم توصل “إسرائيل” إلى المعلومات الإستخباراتية التي ستحصل عليها “أجهزة الرصد” للنظام الدرعي المذكور. وقد رأت أنقرة أن الطريق الأمثل لحصولها على هذه الضمانة هو “إطلاعها آنيا على معلومات أجهزة الرصد المذكورة”.
في ضوء ذلك، بدأت واشنطن تقييم هذا الطلب “بالمعقول” بالنسبة لتركيا على الأقل، وهي مستعدة ـ في الوقت الحاضر ـ منح ضمانة شفهية لتركيا في هذا المجال بحسب مصادر حلف الأطلسي، غير ان السؤال هو: هل تقبل حكومة أردوغان بالضمانة الشفهية؟
ما هو مؤكد ان سياسة تركيا الخارجية بعد عام 2002 والتي قامت على “تصفير المشاكل” مع دول الجوار عزز من استقلالية القرار التركي بالنأي به عن أجواء الحرب الباردة التي كانت تركيا تمضي خلالها خلف الغرب في مواجهة روسيا وإيران والمشرق العربي، ما أضر بعلاقاتها مع تلك الدول، فيما لم يكن العائد على المستوى الذي كانت تتوقعه تركيا أو تستحقه.
ولما كان لهذا التوجه تكلفته الباهظة، أطلت علامات الاستفهام حول قدرة حكومة “العدالة والتنمية” على إمكانية تحمل تلك كلفة الدرع الصاروخية من عدمه. ولكن الشرط التركي يشي من زاوية بإمكانية قبول حكومة “العدالة والتنمية” للمشروع الأطلسي الجديد، على رغم تحفظاتها، التي أعلن أردوغان تمسكه بها ورفض أية ضغوط على بلاده في هذا الشأن، لا سيما إذا تسنى لأنقرة تحسين ظروف وسياق تلك المشاركة عبر إدخال شروط أو تعديلات معينة عليها.
وهو من جهة أخرى، يرى ان رفض أنقرة المشاركة في المشروع، الذي صار أطلسياً بعد أن كان أميركياً صرفاً، ربما يؤكد الادعاءات والاتهامات الغربية و”الإسرائيلية” لها أخيراً ببعدها التدريجي عن الغرب وتقاربها مع الدول المناهضة له كإيران وسوريا.
في ضوء هذه الوقائع تتواصل المفاوضات بين أنقرة وواشنطن، حيث تبدي الأخيرة أهمية كبيرة لمشاركة أنقرة في هذا النظام “لأن تركيا تقع على جبهة التهديد الأمامية لدول حلف الأطلسي” بحسب تعبير حكومة أوباما. أي أن نظام الدرع يستهدف “التهديد الإيراني” أولاً وأخيراً.
تجدر الإشارة إلى أن واشنطن تعلن في مؤتمراتها الصحفية وبياناتها الخطية أن النظام مخصص لردع أي تهديد صاروخي إيراني. أما تركيا التي تقوم منذ مدة طويلة بتطبيق سياسة “تصفير المشاكل مع الجيران” فتعارض ذلك بشدة. وانطلاقا من ذلك أصر وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو خلال مباحثاته مع الطرف الأميركي على “ضرورة عدم ذكر اسم أي دولة عند التحدث عن المشروع وبالطبع عند إنشائه في تركيا أو في أي دولة عضو في حلف الناتو” لافتا إلى أن المستقبل قد يكون حافلا بأي تهديد من دولة أخرى ليست بالحسبان.
ففي بند التهديدات الخارجية في “الوثيقة السياسية” لتعديلات مجلس الأمن القومي التركي تم إلغاء اسم سوريا وروسيا من قائمة الدول التي تشكل تهديدا قوميا وعسكريا على تركيا. وبالنسبة لإيران فقد ألغي وصفها خطرا على النظام، وورد اسمها في قائمة خطر الأسلحة النووية إلى جانب “إسرائيل”، كما أضيف عدم الاستقرار في العراق وخصوصا التهديد القادم من شمال العراق إلى قائمة التهديدات الخارجية.
لا شك أن واشنطن وانقرة تعيشان مأزقين كبيرين بما يخص وضع الدرع. فالأولى ستربك في حال تأكد رفض تركيا النهائي للمشروع. والثانية سيسقط توجهها الجديد بـ “تصفير المشاكل” مع جيرانها.
وما بين ميل أنقرة الاضطراري للاحتفاظ بمساحة من التفاهم والدفء في علاقاتها “المحدودة الفائدة” بحلفائها الأطلسيين، ونزوع للإبقاء على استقلالية في خطواتها التصالحية ومساعيها التقاربية مع أصدقائها الإقليميين، لا يبقى أمام حكومة أردوغان سوى القيام بمواءمة محسوبة ودقيقة في شأن الموقف من الدرع الصاروخية، تتيح لها الاحتفاظ بحد أدنى من التفاهم مع الجانبين، على نحو قد لا يتأتى إلا من خلال موافقة “مشروطة” أو “معلقة” على المشاركة في هذا المشروع، ترتهن بتعديلات تطرحها أنقرة على نوعية مشاركتها في المشروع، ربما لا يتم الإعلان عنها رسمياً قبل تنسيق وتشاور مع موسكو وطهران ودمشق، فضلاً عن مطالب وإرضاءات تركية تعرض على كل من واشنطن والناتو والاتحاد الأوروبي.
“المستقبل”