لبنان في مجلس الامن للمرة الثانية خلال اسبوعين، مع لهجة اميركية متصاعدة ضد سوريا، تنبيها الى التزاماتها وتحذيرا من زعزعة الاستقرار الداخلي. كلام مكرر سمع اللبنانيون مثله مرات ومرات، وليس من شأنه ان يغير شيئا. فما يسمى المجتمع الدولي لا يتمتع بأي قدرة على ضبط الاطراف الاقليمية وامتداداتها الداخلية. وعما قريب سيضطر هذا المجتمع الدولي الى تداول افضل الوسائل لحماية المحققين الدوليين في جرائم الاغتيال، وبالتالي لضمان استمرار المحكمة الدولية في عملها، اذ لم يعد هناك شك في ان مرحلة الهجوم الفعلي على المحكمة قد بدأت، اولا بالاشتباك النسوي مع فريق المحققين، ثم بدعوة الامين العام لـ”حزب الله” الى “مقاطعة المحكمة واعتبار اي تعاون معها بمثابة اعتداء على المقاومة”.
فهذا الاشتباك لن يكون الاخير، وتلك الدعوة قد لا تبقى مجرد توصية خطابية، بل ستشق طريقها الى مجلس الوزراء لاستدراجه هو الآخر الى تبني مقاطعة المحكمة حتى لو كانت مبنية على معلومات مضللة عما كان المحققون يبحثون عنه في العيادة النسائية، بل حتى لو كانت المقاطعة مخالفة لالتزامات لبنان ولمضمون البيان الوزاري. وفي التطورات المستمرة منذ خمسة شهور اكثر من دلالة الى ان مساعي التهدئة ضبطت الوضع جزئيا ولم تتوصل الى معالجة عملية للأزمة التي ولدت موصولة بمختلف صراعات المنطقة، اذ ان ثلاثي سوريا – ايران – “حزب الله” وضع المحكمة الدولية في خانة الادوات الاميركية – الاسرائيلية المستخدمة ضده، ولن يخرجها منها، لكنه سيعمد الى كل الوسائل المتاحة لديه لبنانياً، وهي كثيرة، عسكرية وسياسية وميليشيوية، لكي يجعل ثمن استمرار المحكمة باهظا ان لم يستطع ان يعطلها.
لذلك تسعى واشنطن، وباريس بدرجة اقل، الى التأثير في الدور السوري. ليس هناك تناغم اميركي – فرنسي، بل هناك ارتياب اميركي من طبيعة التقارب الساركوزي مع دمشق، اذ ان باريس تبدي مواقف قريبة واحيانا مطابقة لما تبديه واشنطن لكنها تتحدث مع دمشق بلهجة مختلفة تشجع الاخيرة على مواصلة سلبيتها في التعاطي مع الشأن اللبناني. في اي حال، لا يعني هذا الاهتمام الدولي ان لديه القدرة الفعلية على منع الفتنة. قد يتمكن من تأخيرها ببعض المسكّنات، وقد توحي سوريا بأنها تساهم في التهدئة تجاوبا مع الدعوات الدولية، الا انها تبحث كالعادة عن المصلحة التي يمكن ان تأتيها في المقابل.
الهاجس المقلق لدى العديد من العواصم المعنية، عربيا ودوليا، هو سيناريو “الانقلاب الشرعي” الذي يعني اسقاط الحكومة الحالية عبر تفعيل الاكثرية النيابية المنقلبة الى 8 آذار بعد الخروج الجنبلاطي من 14 آذار. هذا ما يفسر اللقاء الاستثنائي لجيفري فيلتمان مع رئيس “اللقاء الديموقراطي” الذي يحلم بان يبقى في الوسط بين الفريقين، لكن احتدام الصراع لن يبقي مساحة لمثل هذه الاحلام، خصوصا اذا حصر الخيار “مع المحكمة” او ضدها. وعلى افتراض ان “الانقلاب الشرعي” نفِّد سلميا، فإن ما بعده ليس مضمونا. وعلى افتراض ان حكومة بديلة ستشكَّل بيسر وسلاسة، متمتعة بثقة الاكثرية المنقلبة، فانها ستضاعف الانقسام وتفاقم انكشاف الدولة ومؤسساتها بل تضعها في علاقة صعبة مع الخارج، عربيا ودوليا، فتعود قسرا تحت وصاية الامر الواقع السوري – الايراني. غداة زيارة الرئيس الايراني للبنان سجلت كلمة “حوار” مرورا عابرا وما لبثت ان انطفأت. يبدو ان اقتراح الحوار كان مجرد فكرة لإلباس ختام الزيارة ثوبا توفيقيا، للايحاء بأن الايراني يريد ايضا ان يكون “أخاً أكبر” الى جانب الإخوة الآخرين.
من الواضح ان الحوار غير متاح، لان الحلول الوسط مستبعدة وغير متوفرة اصلا. وعلى رغم ان الحلول الجراحية مكلفة وغير واقعية الا انها لا تزال مرجّحة. وها هي دعوة السيد حسن نصرالله الى عدم التعاون مع المحكمة تؤشر الى ان الحوار كان مجرد سراب وتلاشى. في الوقت نفسه لا يزال ملف “شهود الزور” يشل الحكومة والحكم تجنبا لتصويت في مجلس الوزراء، بعد تصويت آخر تم تجنبه في شأن بند تمويل المحكمة الدولية في الموازنة، فماذا لو طرحت ايضا مسألة مقاطعة المحكمة وطُلب التصويت عليها… كل ذلك اعاد البلد ويعيده الى اجواء ازمة اواخر 2006 التي اعطيت تبريرات عدة لكن محورها وجوهرها كان الخلاف على المحكمة الدولية. ومع ان اطراف المعارضة خاضت الازمة لمصالح شتى وحصلت على تنازلات بفعل الحسم العسكري في 7 ايار 2008، الا ان هدفها كان ولا يزال اسقاط الحكم الذي جاء بالمحكمة الدولية. ومع وجود سعد الحريري رئيسا للحكومة يرى “حزب الله” ومن ورائه سوريا وايران ان لديهم “الرجل المناسب جدا لهذه المرحلة” كونه الوحيد الذي يستطيع ان يعطي “شرعية” لإلغاء المحكمة الدولية. لكنه اذا فعل لن يعود مناسبا ابدا للاستمرار في الحكم. ولذلك فهو لن يقدم هذا التنازل.
بموازاة هذه التداعيات الداخلية، يلاحظ ان ثمة حركة اقليمية غير اعتيادية، وهي ذات مغزى، فالدعوة السعودية الى الاحزاب العراقية للقاء في الرياض بعد موسم الحج قد تشكل الاخراج النهائي لحل الازمة الحكومية بعد تنازلات متبادلة بين اطرافها. ولا يبدو ان ايران تعارض هذه الخطوة، فهي ضامنة مكاسبها العراقية وبقاء الحكم في ايدي حفائها من الشيعة المتشددين، وبالتالي فهي تريد الآن تسهيل ولادة الحكومة مع تنازلات للسنة. اما السعودية التي خسرت الرهان على وجود اياد علاوي في رئاسة الحكومة فتريد ان تدخل العراق من باب رعاية المصالحة الوطنية ولمّ الشمل…
هذا التطور، منظوراً اليه من زاوية الأبعاد الاقليمية للأزمة اللبنانية، قد يشي تحليلا بتنازل ايراني في العراق مقابل تنازل في لبنان، لكن هذا مجرد تكهنات على الطريقة اللبنانية المعتادة.
“النهار”