إلى محكمة الجنايات العسكرية الثانية بدمشق الموقرة
مذكرة دفاع خطية
مقدمة في الدعوى المسجلة برقم أساس / 243 / لعام 2011
من المدعى عليه : علي صالح العبد الله ، يمثـله المحامـون عبـد الـرزاق زريـق وجوزيف اللحام وخليل معتوق ورزان زيتونة وسـيرين خوري وحسـين عيسى ومصطفى أوسو .
مقام المحكمة الموقرة :
أولاً : مقدمة لابد منها :
نجد لزاماً التنويه للمحكمة الكريمة بأن هذه القضية التي تنظرها ليست مسبوقة أو مألوفة للمساءلة الجنائية بكافة المقاييس،سواء المتعلقة بشخص الموكل،أو طبيعة القضية وظروفها السياسية ، أو معطياتها القانونية والدستورية ، لهذا فإن دلالتها لا تنحصر في شخص الموكل ، بل تمتد في آثارها وأبعادها السلبية أو الإيجابية لعموم مجتمعنا حاضراً ومستقبلاً، مما يجعلها مناسبة لوقفة الشرف والنزاهة المهنية و الوطنية التي يجب أن تُرصِّع دوماً جبين المحكمة والسجل القضائي .
أما بالنسبة لشخص المتهم فإننا نستميح المحكمة عذراً بتوضيح ما يلي :
1 ـ إن المحكمة لا تحاكم شخصاً اقترف جرائم شائنة كالاتجار بالمخدرات أو الفساد ونهب المال العام ….الخ، بل هي تحاكم مواطناً سورياً اختار النزاهة والقناعة بالفقر والعوز لقاء الانشغال بأهم ما يشغل وطنه ومجتمعه من المشكلات والتحديات والتطلعات النبيلة .
2 ـ وهو في هذا لم يكن مجرد مواطن عادي، ولم يشأ أن يكون شخصاً لا مبالياً بما يجري وما يحاك لوطنه وأمته، بل أفنى خيرة عمره في البحث والدرس ليكون صوتاُ مثقفاً وباحثاً صحافياً وفكرياً للدفاع عن هذه الأهداف النبيلة أو السعي لتحقيقها .
3ـ لهذا، فما أن اشتد التآمر الاستعماري ضد الشعبين الشقيقين ( الفلسطيني و اللبناني) وصولاً للغزو الإسرائيلي و الأطلسي للقطر اللبناني، حتى سارع إلى هناك مدفوعاً بحسه الوطني والأخلاقي ليصرف فترة شبابه الحقيقية ( بدءاً من عام 1977 ولغاية 1994) متضمنة فترة رحيله إلى تونس مع بقية الفصائل الفلسطينية التي امتدت خمسة أعوام ، حيث أمضى هذه الأعوام جميعها بعيداً عن زوجته وأطفاله بل وعن سائر ذويه الآخرين .
4 ـ فوق هذا، فإن المحكمة تحاكم إنساناً تمت إعادته للسجن فور انتهاء محكوميته البالغة عامين ونصف أمضاها كاملة مصحوبة بحسن السيرة و السلوك، أما تهمته تلك فكانت المشاركة في دعوة الإصلاح السياسي في قطره السوري، مدفوعاً بحسِّ المسؤولية وحسن النية، مع الثقة أن مجمل مسيرته السابقة ، وحاجة مجتمعنا للإصلاح ، فضلاً عن الحقوق الدستورية التي تصون حرية التفكير والتعبير ، كفيلةٌ جميعها أن تحفظ له هذا الحق ، بل هذا الواجب الذي يقع أصلاً على عاتق كل مواطن سوري ، وكل إنسان في كل مكان من أرجاء وطننا العربي الكبير .
5 ـ أخيراً، فإن القضاء لا يحاكم شخصاً مقتدراً ميسوراً ، يتربع على قاعدة من الصحة والعافية والأموال التي أودعها لأسرته من مصادرها الحلال أو الحرام ، بل هو يحاكم مواطناً زاهداً فضَّل العوز مع العِفَّة ونزاهة الكلمة على أموال الدنيا جميعها ، ناهيك عن أنه يكابد أمراضاً استفحلت نتيجة السجن ، كما أنه ترك في ذمة بلده ( وذمة القضاء أيضاً ) أسرة محطمة القلب و الشعور ، وأهم من فيها أم أولاده التي تكابد مرضاً عضالاً أليماً ومستفحلاً ، وقد علمنا من خلال إعداد مذكرة الدفاع هذه أنها توفيت ليلة 8 /1/2011 ، صابرة محتسبة وفاضت روحها الطاهرة ، إلى بارئها الديَّان تشكو له ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وتركت عدداً من أبناءٍ وبنات يتهددهم البؤس والضياع ، بعيداً عن أمٍ كانت تحنو عليهم و عن أبٍ يرعاهم. ولعل في هذا ما يشكل امتحاناً يتطلب وقفة إنسانيةً مسؤولةً من مقام المحكمة الموقرة لأنها تجسيد للعدالة في أرفع صورها ، وهي الحارس الأمين ، وصاحبة الكلمة الفاصلة لتنقية العدالة من كافة الأهواء و الشوائب والضغوط و التقلبات ، فإذا ما خسر مجتمعنا هذه الضمانة أو أصبحت العدالة غطاء ٌ للانتقام أو سواه ـ لا سمح الله ـ فإن هذا الخطر لن يقف أثره ولن يقتصر على الموكل وأطفاله فقط ، بل سوف يشكل سابقة خطيرة تطال كل فرد ، وتطال الناس جميعاً ، حاضراً أو مستقبلاً دون استثناء .
مقام الهيئة الموقرة :
ـ إن هذا إلا نزر يسير عن حالة الموكل و المصائب التي ألمت به وبأسرته بوفاة أم أولاده وهو بعيد عنها حبيس السجن ،أما بالنسبة لطبيعة القضية وظروفها السياسية ، فهي تمتلئ بالمعطيات و التقلبات التي ليس فيها أصلاً ما يبرر محاكمة الموكل على الإطلاق لأنه لو صح ـ محالاً ـ اعتبار الفعل المنسوب للموكل جرماً ، لكان يتوجب من باب أولى أن تحيل السلطات الإيرانية وتملأ أقفاص الاتهام ،عشرة ملايين مواطن إيراني ، ممن أعلنت أنهم عارضوا الرئيس نجاد ورفضوا انتخابه ، أو على الأقل معاقبة نصف أو ربع هذه الكتلة البشرية ممن احتجوا بتزوير هذه الانتخابات ( ومعظمها مقرون بطعون رسمية أمام المحكمة الدستورية الإيرانية فعلاً) .
وإذا أضفنا ملايين أخرى من الإيرانيين الذين يعارضون هذا النظام الأجنبي أو ذاك ، وملايين ثالثة ممن يعارضون هذا العيب الداخلي أو ذاك، لكان يتعين تجريم مجموع الشعب الإيراني بما في هذا صحافته و أحزابه وجامعاته وبرلمانه ومرجعياته الدينية و السياسية ، ناهيك عن محكمته الدستورية أيضاً التي أخذت ادعاءات التزوير مأخذ الجد ، وترفعت عن مساءلة أصحابها ، بل اعتبرتها جزءاً لا يتجزء من حقوقهم الدستورية ، ومن كراماتهم ومن هيبة دولتهم على حد سواء .
ـ والواقع أن حقوق الإيرانيين في انتقاد هذا النظام أو ذاك ، تكاد لا تساوي شيئاً أمام ادعاءات التزوير وبقية الانتقادات التي يمارسونها فعلاً ضد أرفع الجهات المسؤولة هناك، ومن باب أولى أن هيبة الدولة و علاقاتها مع الدول الأخرى ليست مرهونة بكمية الانتقاص من حقوق أبنائها و حرياتهم الدستورية ، وهي لا تتطلب جعلهم قالباً واحداً في نظرتهم لهذه الدولة أو تلك.
لهذا يجدر السؤال :
ماذا لو أن رئاسة تلك الدولة الصديقة آلت لمرشح آخر كما حصل مع الرئيس محمد خاتمي الذي حفظ ، بل وطد علاقته الإستراتيجية مع قطرنا ، وكان هو نفسه من المدعين بتزوير نتائج الانتخابات الأخيرة أيضاً ؟ ؟ !!
ـ غاية القول أن هيبة الدولة و احترامها في عيون الدول الصديقة والعدوة معاً لا تتعارض أو تنتقص من حقوق أبنائها وحرياتهم الأساسية ….إن لم يكن العكس تماماً وفي أقل الفروض فهي تقتضي توضيح الحد الفاصل بين ما يعتبر حقاً أساسياً من حقوق التعبير …. وبين ما يعتبر مساساً بمصالح الدولة و علاقاتها مع الدول الأخرى !
ـ ولا شك أن هذا التفريق في غاية الأهمية ، وهو جوهر المسؤولية القضائية لمحكمتكم الموقرة خصوصاً عند غموض هذا التفريق بل وفقدانه النص القانوني موضوع الاتهام ، وخصوصاً أنه لا جريمة دون نص ، وأن الأصل في الأشياء الإباحة…وهو الظاهر …وأن الشك يفسر لصالح المتهم أولاً وأخيراً وأن غاية القضاء هو تحقيق العدالة وليس الانتقام ، وكل هذا هو مناط مناقشتنا للتهمة من ناحيتها القانونية .
ثانياً : في الموضوع
آ ـ في طبيعة إقامة هذه الدعوى وإجراءاتها و خلفياتها :
كان الموكل المدعى عليه قد أحيل ـ ابتداءً ـ إلى النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة العليا بناءً على كتابٍ من رئيس شعبة الأمن السياسي موجه إلى السيد نائب الحاكم العرفي والمتضمن ـ كما يدعى به في الكتاب ـ اعتراف الموكل المدعى عليه بنشر أخبارٍ من شأنها أن تُعكِّر صلات سورية بدولة أجنبية حسب المادة 278 ع عام ، إلا أن النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة العليا قررت من حيث النتيجة عدم الاختصاص النوعي للنظر بهذه الدعوى فأحيل الموكل إلى النيابة العامة العسكرية ، التي حركت الدعوى العامة بحقه بجرمٍ جنائي الوصف وفق المادة المذكورة ، فكانت هذه الدعوى .
وكنا كهيئة دفاعٍ قد أوضحنا في مذكرتنا المؤرخة في 18/7/2010 ، المقدمة إلى سيادة قاضي التحقيق العسكري عدم صحة الإجراءات التي تمّ على أساسِها إحالة الموكل إلى القضاء ، وأكدنا على بطلانها ، لأنها جاءت وفقاً لإعلان حالة الطوارئ الصادر بتاريخ 8/3/1963، التي تضع قيود على حرية الأشخاص في التعبير والاجتماع والانتقال والإقامة والمرور والقبض والاعتقال وتعتمد على المحاكم الاستثنائية .
وحالة الطوارئ هذه كثيراً ما نادى الكثيرون من المواطنين ـ ونحن منهم ـ بضرورة إلغائها ودفعنا أيضاً بأنه وفي حالة ـ ارتكاب الموكل ـ لما نسب إليه فإن العهد الدولي الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة والذي انضمت إليه الجمهورية العربية السورية بالمرسوم التشريعي رقم 3 لعام 1969 الذي اعتبر حق التعبير والرأي من صميم حقوق الأفراد والجماعات، فضلاً عن أن اعتبارها ـ أفعالاً جرميةً ـ مخالفٌ لنص المادة 38 من الدستور العربي السوري التي أعطت الحق لكل مواطنٍ في أن يُعْرِبَ عن رأيه بحريةٍ وعلنيةٍ بالقولِ والكتابةِ وبكافة وسائل التعبير الأخرى.
اكثر من هذا لئن كان حق الموكل محفوظ ومصان في نص الدستور الحرفي القائم في قطرنا فهو مصان من باب أولى في مبدأ الدستورية بحد ذاتها ، ومبدأ الدستورية هو أرفع وأعلى من الدساتير نفسها ، وهو أصلها ومرجعيتها وأسبابها الموجبة المستقاة من جوهر الحقوق الطبيعية ، وما النصوص الدستورية بحد ذاتها إلا صدى أو ترجمة لهذا الأصل الطبيعي ، وهذا ما عبر عنه العلامة البريطاني Nathan Brown في التفريق بين الدستور ومبدأ الدستورية ذاته ، باعتبار الأخير صاحب الأولية في الترتيبات المؤسسية بوصفه مرجعية ثقافية وقيمية تضع قيوداً على وسائل ممارسة سلطة الدولة وتضمن مراقبتها وفاعلية محاسبتها للحد الذي يمكن القول معه أن إغفال مبدأ الدستورية يجعل النصوص بلا معنى أو كأنها غير موجودة ، وهذا ما دفع العلامة المذكور لتأكيده بالقول ( إن كل مجتمع لا تؤمن فيه الحقوق الأصلية ولا يتم فيه فصل السلطات هو كمجتمع بلا دستور أصلاً ).
ومن هنا فإن الدفاع يرى ـ بادئ ذي بدء ـ أن البطلان قد أحاط وشمل كافة إجراءات التحقيق في هذه الدعوى، والتي جاء قرار الاتهام فيها غير مبني على أي أساسٍ صحيحٍ من الإجراءات، فضلاً عن أنه غير مبنيٍّ أيضاً على أي دليلٍ يقوى على حمله كما سوف تتبيَّنهُ محكمتكم الموقرة بثاقبِ بصيرتها وعلى النحو الذي سيأتي بيانه .
ب ـ في القـانون :
وكما سبقت الإشارة إليه في المقدمة فإن الموكل المدعى عليه مواطن مثقف وصحفي ملتزمٌ بقضايا أمته ووطنه و معنيٌّ بها كما هو مفترض بأن يكون كل مواطن مثله معنياً بها ، وقد كان ومن خلال إطلاعه على ما نشر في وسائل الإعلام والصحف السورية قد أدلى بدلوه وبنى رأيه بالتعليق على الانتخابات الإيرانية (الرئاسية) ورأى من خلال ترجمته للمعلومات والوقائع التي كان يستقيها من مصدر معلوماته الوحيدة المتاحة له وهو ـ نزيل سجن دمشق المدني ـ وهي جريدة البعث والثورة وتشرين والديار اللبنانية ومحطة التلفزيون السورية وقناة المنار .
رأى أنه ليس من سبيل للحفاظ على التوازن الإستراتيجي لإيران في المنطقة سوى بفوز الرئيس أحمدي نجاد بالرئاسة حتى ولو اضطر للتزوير على فرض وقوع ذلك .
وقد أكدَّ الموكل أثناء استجوابه لدى قاضي التحقيق مُصْدِر قرار الاتهام بأن مصدره لهذه المعلومات حول التزوير كان قد استقاها من التصريحات التي كان يدلي بها المرشحون الثلاثة وهم (مير حسن موسوي) و (محسن رضائي) و(هاشمي رفسنجاني)، والتي نشرتها وسائل الإعلام والصحف الوطنية والمحلية كما سبقت الإشارة إليه،وليس من أي مصدرٍ آخر،لأنه لا سبيل له للإطلاع على مصادر الأخبار خلال فترة وجوده سجيناً إلا من خلال وسائل الإعلام والصحف الوطنية المحلية .
و كان الموكل المدعى عليه ومن خلال إدلائه بأقواله في شتى مراحل التحقيق،صادقاً مطمئناً إلى أنه إنما يعبِّر عن رأيه مما نشر في وسائل الإعلام الوطنية ، ولم يكن مبتدعاً ولا مُنشئاً لأي خبر ، بل هو يعبر عن رأيه هو في هذا الخبر، الذي تناقلته وسائل الإعلام الوطنية والمحلية وقد أثبتنا لسيادة قاضي التحقيق مُصدِر قرار الاتهام ،و بالوثائق المقدّمة ربط مذكرة الدفاع المبرزة إليه المؤرخة في 29/8/2010،أن هذه الأخبار كلها منشورة في الصحف المحلية الوطنية، بل وقد أثبت ذلك سيادة القاضي مصدر القرار في متن قراره معتبراً ـ وخلافاً للمتوقع منه ـ أن ذلك لا يؤثر في أدلة الدعوى بشيء كما جاء في القرار .
بمعنى أنه أي الموكل المدعى عليه ـ كان وما يزال ـ على يقينٍ من أنه ومن خلال ما قام به من ممارسة حرية التعبير في التعليق عن خبرٍ أو أخبارٍ تناقلتها سائر وسائل الإعلام المحلية الوطنية إنَّما يمارس حقَّه الذي كفله له وصانه الدستور العربي السوري في مادته الثامنة والثلاثين التي تنص على أنه:
” لكل مواطنٍ الحق في أن يُْعْرِبَ عن رأيه بحريةٍ وعلنيةٍ بالقولِ والكتابةِ وكافة وسائل التعبير الأخرى …….وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر وفقاً للقانون “.
فهل يمكن أن يُقْبَلَ أو يُتَّصور في منطق العدالة والحق والقانون ، أن يُعْتَبرَ قيام المواطن ، بممارسة حقٍّ من حقوقه التي صانها له الدستور وتكفلُه الدولة نفسها ، جريمةً يعاقب عليها القانون ؟
لن نجيب على هذا السؤال الذي لا يحتاج الجواب عنه إلى كبير عناء ، بل نحيلُ في الجواب عنه إلى ما أكدّه أستاذنا الجليل الشهيد الدكتور محمد الفاضل في مؤلفه :” الجرائم الواقعة على أمن الدولة ” والذي نال من أجله جائزة الدولة للكتاب ( عام 1958) ج1 ص568 وما يليها حيث يقول ما نصه بالحرف:
” تعاقب الفقرة “ب ” من المادة 278 من قانون العقوبات بالاعتقال المؤقت ” من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تجزها الحكومة فعرض سورية لخطر أعمال عدائية ، أو عكر صلاتها بدولة أجنبية، أو عرض السوريين لأعمال ثأرية تقع عليهم أو على أموالهم “
وهذا النص ـ كما يقول أستاذنا الفاضل ـ من النصوص النادرة المخيفة في التشريع الجزائي السوري ، فهو سلاح قاطع ذو حدين : إذا أحسنت السلطة استعماله جنبت سورية والسوريين أخطاراً كثيرة في ميدان العلاقات الدولية، ووطدت دعائم السلم والصفاء والصداقة والتفاهم في صلات الدولة السورية الفتية بالدول الأجنبية وقضت على كثير من أسباب العداوة والبغضاء والتوتر بيننا وبين غيرنا .
أما إذا أساءت السلطة تطبيق هذا النص ، فقد يفضي ذلك إلى سلب المواطنين حرية الإعراب عن آرائهم خطابةً وكتابةً في الشؤون الدولية وفي سياسات الدول الأجنبية حيال بلادنا ، فكل تنديد بأطماع تلك الدول وكل نقد لسياستها العدوانية إزاء سورية و قضاياها في النطاق الدولي يمكن أن يكونا موضع ملاحقة ومعاقبة بموجب نص الفقرة “ب” من المادة 278 إذا لم ترضَ السلطة القائمة عنهما ، إذ يكون من السهل اليسير أن تسيء السلطة تأويل هذا النص ، فتزعم أنه من شأن مثل هذه الحملات أن تؤول إلى تعكير صلات سورية بالدول التي انصبّ عليها النقد والتنديد.
ولا رادع للسلطات عن إساءة استعمال هذا السلاح سوى مسؤوليتها السياسية، وحساب الرأي العام ، واسترشادها المصالح الوطنية في سلوكها.
ومهما يكن ، فإن أركان الجرم الذي نصت عليه الفقرة “ب” من المادة 278 من
قانون العقوبات يمكن تحديدها بما يلي :
أولاً ــ قيام الفاعل بأعمال أو كتابات أو خطب ذات مساس بالدولة الأجنبية أو برعاياها ولم يشأ الشارع السوري في هذا النص العام المطلق أن يحدّد ماهية هذه الأعمال أو الكتابات أو الخطب التي تؤلف مادة السلوك الآثم و كنه النشاط الجرمي .
ولم يشأ الشارع السوري أيضاً أن يقصر ركن هذه الجريمة المادي على الأفعال الخارجية المحسوسة، كما هي الحال في النصوص المماثلة في التشريعات الجزائية الأجنبية ولكنه ـ أي الشارع السوري ـ ضمَ إلى الأعمال وسائل التعبير كالخطب والكتابات ، حتى ليكاد يخيل للباحث المدقق أن هذا المدى الواسع في الشمول والتعميم ينتقص من حق المواطنين في الإعراب عن آرائهم في العلاقات الدولية وفي شؤون بلادهم الخارجية ، ويناهض مبدأً أساسياً من مبادئ الدستور السوري تجلى في المادة الرابعة عشرة بوضوح ما بعده وضوح إذ أوجبت الفقرة الأولى من هذه المادة أن تكفل الدولة حرية الرأي ، ومنحت” كل سوري حق الإعراب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير “
وكان الأولى والأصح والأقرب إلى قواعد الحكم الديمقراطي السليم أن يقتصر الشارع السوري في نص الفقرة “ب” من المادة 278 من قانون العقوبات على تجريم ” الأعمال ” أي الأفعال المادية الخارجية المحسوسة وألا يتناول بالعقاب وسائل التعبير من خطبة تقال أو محاضرة تلقى أو مقال يكتب وينشر أو يذاع .
ثانياً ـ وأن يكون من شأن الفعل تعريض سورية لخطر أعمال عدائية أو تعكير صلاتها بدولة أجنبية أو تعريض السوريين لأعمالٍ ثأرية تقع عليهم أو على أموالهم .
ثالثاً ـ وفضلاً عن ذلك فإنه لابد من قيام الصلة السببية المباشرة بين العمل أو الخطابة أو الكتابة التي عزي القيام بها إلى الفاعل وبين الخطر المحتمل وقوعه في الحالين الأولى والثانية، أو تعكير الصلات الواقع فعلاً في الحال الثالثة ، فإذا لم يقم الدليل القاطع على أن هذا من ذاك ، أو أن هذا ردُّ فعلٍ لذاك ، فلا مجال لتطبيق أحكام النص الذي نحن بصدده .
( الدكتور محمد الفاضل ، الجرائم الواقعة على أمن الدولة ـ ج1ص568 و ما يليها.)
*********
وغني عن البيان أن إعمال المعايير الفقهية الدقيقة الراسخة والمعتبرة فقهاً يقتضي أن تعتبر هذه الأقوال التي لا تخرج عن كونها تعبيراً عن رأي الموكل المدّعى عليه في أنباء ٍ نشرتها وسائل الإعلام الوطنية الرسمية وغير الرسمية ، إنما تدخل ضمن نطاق حق حرية المواطن في الإعراب عن رأيه وهو الحق الذي صانه وكفله الدستور كما سبقت الإشارة إليه ، ولا يمكن اعتبار هذا الرأي مما يعرض سورية لخطر أعمال عدائية ، ولا أن يعكر صلاتها بدولة جمهورية إيران الإسلامية ، والتي هي دولة صديقة ، كما ليس من شأن هذا الرأي أن يعرض المواطنين السوريين لأعمال ثأريةٍ تقع عليهم أو على أموالهم …. مما ينفي عن الفعل المنسوب للموكل المدعى عليه ارتكابه أنه يشكل جريمة معاقب عليها قانوناً بعقوبة جنائية شديدة .
وفضلاً عن ذلك أيضاً فإن من المعلوم أن من القواعد القانونية الراسخة دستوراً وقانوناً وفقهاً :
أنه : ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ٍ قانوني ” ( المادة 29 من الدستور)
وانه : ” لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو إصلاحي من أجل جرم لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترافه ” ( الفقرة الأولى من المادة الأولى من قانون العقوبات)
وأنه: ( لا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات على حريات الناس والقبض عليهم بدون حق.)
(محكمة النقض المصرية 1985)
وأنه :” في حال غموض النص القانوني الجزائي ، وارتأى القاضي ضرورة تفسيره ، فإنه يشترط ألا يتطرف القاضي في تفسيره لأنه مقيدٌ دوماً بقاعدتين اثنتين الأولى قانونية الجرائم والعقوبات والثانية قاعدة تفسير الشك في مصلحة المتهم ” .
( المفصل في شرح قانون العقوبات للدكتور المرحوم عبد الوهاب حومد ـ طبعة 1990 ص 344)
ولعل مما يؤكد أن تفسير النص القانوني سواء من قبل النيابة العامة العسكرية أو من قبل سيادة القاضي مصدر قرار الاتهام ، مناط هذه الدعوى جاء متكلَّفاً ومشوباً بالتزيد الواضح لأن نص المادة القانونية قد جاء فيه اشتراط أن يكون الفعل الجرمي قد عرَّض سورية لخطر أعمال عدائية، أو عكر صلاتها بدولة أجنبية بينما أورد سيادة القاضي في قراره الإتهامي أنه إنما يعكِّر صلات سورية، أي باحتمال أن يعكر ، ولم يقل أنه عكَّر صلات سورية بإيران ، بحيث أن القرار الإتهامي لم يتحدث في حيثياته عن أية شكوى إيرانية ، بل لم يشهد أحد شيئاَ من التداعيات السلبية الناجمة عن هذا المقال ، بل إن من الملاحظ وبصورةٍ واضحةٍ وجليةٍ أن العلاقات السورية الإيرانية تشهد تطوراً إيجابياً نوعياً وشاملاً في سائر المجالات .
وفضلاً عن كون تعبير الموكل عن رأيه فيما نشرته الصحف و وسائل الإعلام المحلية والوطنية لم يؤثر سلباً على العلاقات السورية الإيرانية ، فإن أحداً لم يقل ، بما في ذلك سيادة القاضي مصدر قرار الاتهام نفسه . أن أحداً من المواطنين العرب السوريين قد تعرَّض لأية أعمالٍ ثأريةٍ أو انتقاميةٍ … وذلك خلافاً لما يشترط في النص القانوني الذي هو مستند الاتهام في هذه القضية من أساسها .
والخلاصة ، فإن إعمال المبادئ الراسخة دستورَاً وقانوناً وفقهاً على الواقعة موضوع هذه الدعوى ، يقتضي عدالةً ومنطقاً اعتبار الفعل ممارسةٌ لحقٍ قانوني كرَّسه الدستور والقوانين وعَدمُ اعتباره فعلاً جنائياً معاقباً عليه خلافاً لما ذهب إليه سيادة قاضي التحقيق في قرار الاتهام .
ـ ثالثاً ـ وختاماً ـ في الطلب :
مقام الهيئة الموقرة :
ـ إن كل ما سبق ذكره يعيدنا لما أبديناه في المقدمة من أن التهمة المنسوبة للموكل المدعى عليه باطلة بكافة المقاييس القانونية والسياسية والإنسانية ، إذ لا يعقل تجريم مواطن سوري ومعاقبته على مجرد قولٍ لا يخضع للتجريم في الدولة المعنية بعلاقتنا الطيبة معها ، وحيال مواطنيها أنفسهم ، فكيف يمكن اعتباره جرماً حيال مواطني الدول الأخرى .
والفعل المنسوب للموكل لا يخرج في مطلق الأحوال عن حق التعبير السياسي الذي يلامس واقعة قائمة أو مسلكاً بعينه دون المسِّ بالدولة الأجنبية ذاتها أو مصالحنا وصلاتنا بها ، ومثل هذا التفريق في غاية الأهمية ، لأنه يمس صلاتنا بالدول الأخرى دون استثناء ، بما في هذا الولايات المتحدة الأمريكية التي تراوحت علاقات قطرنا معها بين مدٍّ وجزر ، وبين تهدئة أو صراع وبين انفتاح أو معاداة …مرات و مرات متكررة ، مع هذا ما انفك مفكرونا وباحثونا وصحافيونا ( خصوصاً في الصحف السورية ) يكررون نفس المعطيات و الانتقادات والأدبيات التي تؤكد انتقاد السياسة الأمريكية كلاً أو جزءاً ، ولو صح استخدام المعيار الذي قامت عليه التهمة موضوع الدعوى ، لكان يقتضي إحالة هؤلاء جميعاً للقضاء .
ـ وغاية القول أن مناط القضاء هو تحقيق العدالة بمعايير موضوعية تتصف بالثبات والديمومة التي لا تعرف التناقض والازدواج والإنتقائية ، ولا تخضع للأهواء والتقلبات الوقتية حتى مع أعتى المجرمين العاديين ، ناهيك عن المواطنين الذين يجتهدون بشرف لخدمة أوطانهم وربما يخالفوننا الرأي أحياناً ، وربما لا يخالفوننا الرأي أحياناً أخرى ، في هذا الشأن أو ذاك !.
مقام الهيئة الموقرة :
نكرر القول أن هذه الدعوى مناسبة حقيقية لوقفة الشرف والنزاهة المهنية والوطنية التي يجب أن تُرَصِّعَ جبين محكمتكم والسجل القضائي الذي يليق ببلدنا ،وموروثه الحضاري الطويل ويضيف له آثراً جديداً للآتيات من الأيام .
وإن أعين الموكل وأبنائه وكل من يعرفه حق المعرفة ، تتطلع إلى ضمائركم العادلة آملةً إعادة الحق إلى نصابه ليعود لهذا الإنسان الماثل بين يدي عدالة محكمتكم الموقرة حريته وكرامته .
ولعل في ذلك ما يدعونا إلى أن نلتمس من مقام محكمتكم الموقرة إعطاء قرار الحكم بإعلان براءة الموكل المدعى عليه من اقتراف أي فعل جرمي معاقب عليه قانوناً ،وفي حال جنوح المحكمة للتجريم منحه منتهى أسباب التخفيف القانونية والتقديرية .
نشكركم ونترك المدعى عليه في ذمة عدالتكم
دمشق في 23/ 2/ 2011 مع فائق الاحترام والتقدير
المحامون الوكلاء
“رابط معلومات حقوق الانسان في سورية”