إن قرار ثمانٍ وعشرين هيئة فلسطينية ومجلسًا بلديًّا في مدينة القدس المحتلة بمقاطعة كافة المؤسسات الأميركية العاملة في المناطق الفلسطينية بسبب (الفيتو) الأميركي الأخير في مواجهة القرار بمجلس الأمن الدولي الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي، هو موقف جيد ويسير في الاتجاه الصحيح نحو ممارسة أحد أشكال المقاومة نحو استعادة الحق الفلسطيني المسلوب، والتعبير السلمي والسياسي السليم عن ما وصل إليه الامتعاض الفلسطيني من الانحياز الأميركي السافر للسياسة الإسرائيلية.
حيث اتخذت هذه الهيئات والمجالس المحلية الفلسطينية قرارًا بإلغاء كافة الاتفاقيات مع كل المؤسسات الأميركية وكافة المنظمات المنبثقة عنها بما فيها وكالة التنمية الأميركية (USAID)، وفي الوقت ذاته يشمل القرار رفض كافة أنواع المساعدات التي تقدمها تلك الجهات للفلسطينيين، فضلًا عن اتخاذها قرارًا آخر بوقف جميع الاتصالات مع المسؤولين الرسميين الأميركيين، وكذلك مقاطعة القنصلية الأميركية في القدس المحتلة، باستثناء أبناء الشعب الأميركي أو الصحفيين الأميركيين. ولا ريب أن هذه الهيئات الفلسطينية بهذا القرار قد تخلصت من حِمْل يجعلها غير قادرة على إبداء موقفها بشكل صريح مما يجري على الأرض من سياسات قمعية إسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وعمليات التهام وتهويد للمدينة المقدسة وأراضيها وتشويه معالمها العربية والإسلامية، إلى جانب عمليات التطهير والتهجير الممنهجة ضد المقدسيين الفلسطينيين والهادفة إلى جعل القدس المحتلة خالية من أي هوية عربية وفلسطينية باعتبارها ـ كما يزعم الإسرائيليون ـ العاصمة الموحدة لما يسمى بدولة إسرائيل اليهودية.
كما يجعل الهيئات الفلسطينية تعبر عن موقفها بكل أريحية ودون أي قيود من السياسة الأميركية الممالئة والعمياء والمنحازة للجانب الإسرائيلي في مواجهة المطالب الفلسطينية المشروعة. وعلى الرغم من أن هذا القرار جزئي كونه صادرًا عن جزء من المجتمع الفلسطيني، فإنه حتمًا سيعطي دافعًا لبقية القوى الفلسطينية بما فيها الفصائل الفلسطينية، وسيعزز من موقف السلطة الرافض لجميع أشكال الضغوط والابتزاز الأميركي ـ الإسرائيلي، ما سيسمح بتوسع رقعة المقاطعة ورفض التعامل مع المؤسسات الرسمية الأميركية لعدم احترامها لإرادة الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة بتحقيق مطالبها المكفولة بالقوانين الدولية والشرائع السماوية، حيث كان آخر إهانة تقدمها الولايات المتحدة لأصدقائها وحلفائها في المنطقة هو نسف مشروع القرار الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي الذي رأته سابقًا أنه العقبة الحقيقية في طريق تحقيق السلام وحل الدولتين الذي نادى به الرئيس الأميركي باراك أوباما، مُعلِنةً نفسها أنها في خندق الاحتلال والاستيطان المضاد للسلام، وأنها في مواجهة رعاة مصالحها من العرب وحلفائها الغربيين، منتصرةً لسياسة عدم الاستقرار التي تنتهجها إسرائيل، ومشجعة لها على السير في هذا الطريق غير عابئة بأن لها مصالح يجب مراعاتها، أو على الأقل كنوع من الاحترام تجاه حماة ورعاة هذه المصالح.
لقد أثبتت الولايات المتحدة تنكرها لجهود السلام من خلال موقفها الأخير في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي تكون قد وضعت حدًّا لا يقبل الشك لما كانت تعلنه عن رغبتها في تحقيق السلام، مُبرهنةً على أنها بالفعل تدير الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وليست وسيطًا نزيهًا كما كانت تدعي، وعليه أي دور تقوم به لاحقًا لا قيمة له ما لم يكن هناك عمل جدي على الأرض وملموس من جميع الأطراف، وإلا فإنها قد حكمت على مصداقيتها بالبطلان وجعلت صورتها ـ التي جاءت بأوباما من أجل تحسينها ـ في الحضيض. ولذلك فإن على الجانب العربي أن يجعل من موقف الهيئات والمجالس المحلية الفلسطينية بداية لتبلور موقف فاعل عليه تطويره وتوسيعه ليؤدي الغاية المطلوبة من هكذا مواقف.