ليس من المبالغة القول إن آخر فيتو استعملته الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي نهار 18 شباط الحالي لإسقاط مشروع قرار بإدانة إسرائيل جراء استمرارها في أعمال البناء في المناطق المحتلة، كان أشدّ فيتو يثير مخاوف إسرائيل لأنه جاء متماشياً مع سياسة إدارة باراك أوباما الداخلية والتي تقف في صلبها غاية إرضاء الكونغرس، أكثر مما كان تعبيراً عن تأييد سياسة إسرائيل، شأن ما كانت الحال عليه مرات كثيرة في السابق.
وفي الوقت الذي توقعت فيه تحليلات متعددة أن الثمن الذي سوف يترتب على هذا الفيتو ربما يكون باهظاً، في ضوء ازدياد الاعتماد على واشنطن التي لا بُدّ من أن تطلب مقابلاً، عاجلاً أم آجلاً، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو نفسه بدا أكثر اهتماماً بتجنّب خطوات من شأنها أن تعزّز ما سمّاه “حملة نزع الشرعية عن إسرائيل في العالم”، وفق ما انعكس في قراره منح أعضاء الكنيست من حزب الليكود حرية التصويت على اقتراح تقدّم به حزب “إسرائيل بيتنا” ويقضي بإقامة لجنة تحقيق برلمانية لتقصي عمل منظمات حقوق الإنسان، مما تسبب بفقدان الأكثرية المطلوبة لإقرار هذا الاقتراح في حال التصويت عليه.
وتمثل جانب ثانٍ من المخاوف الإسرائيلية في حقيقة أن الدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن أيّدت مشروع القرار الذي أسقطه الفيتو الأميركي، وبذا فإنها لوّحت بمبلغ تضعضع صورة إسرائيل في نظرها. وهو تطوّر لا تتعامل معه هذه الأخيرة بنعمائية، بحسب ما يثبت مثلاً قرار وزير الخارجية الإسرائيلية، أفيغدور ليبرمان، في أواخر الشهر الفائت، القيام بحملة دعائية تستأجر خلالها إسرائيل خدمات شبكة مكاتب علاقات عامة في عشر دول أوروبية بهدف تحسين صورتها لدى الرأي العام الأوروبي والتي تراجعت في الأعوام الأخيرة.
وقيل في حينه إن هذه هي أول مرة ستستخدم فيها إسرائيل مكاتب علاقات عامة خارجية بهذا الحجم الكبير، علما بأنها سبق أن استخدمت مكتب علاقات عامة أميركيا لمساعدتها في تحسين صورتها أمام الرأي العام الأميركي في أثناء حملة اجتياح الضفة الغربية في عام 2002، وفي عام 2004 تبرع مكتب علاقات عامة فرنسي بمساعدة إسرائيل على تحسين صورتها عقب انعقاد المحكمة الدولية في لاهاي والتي أقرت عدم شرعية الجدار الفاصل. واتخذ ليبرمان قراره بعد وصول تقارير من سفراء إسرائيليين في أوروبا أفادت بأن غالبية الأوروبيين تؤيد الفلسطينيين الذين يظهرون كضحية للسياسة الإسرائيلية، فيما انحصر تأييد إسرائيل في أقلية صغيرة من الأوروبيين الذين ترى غالبيتهم أنها دولة متطرفة وعدوانية ودينية متعصبة.
لعل مجرّد ذلك يشكل انقلاباً نهائياً على “القاعدة” التي كانت الممارسات الإسرائيلية تحتكم إليها على الدوام، والتي وضعها ديفيد بن- غوريون، المؤسس الفعلي لدولة إسرائيل ورئيس أول حكومة فيها، وفحواها “لا يهم ما الذي يفكر الأغيار (الغوييم) به، إنما الأهم هو ما يفعله اليهود”. وكانت أولى ملامح هذا الانقلاب قد بدأت في عام 2000 ارتباطاً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومع أن من الصعب الجزم بمسألة انعدام الاكتراث الرسمي والإعلامي بتلميع صورة إسرائيل قبل ذلك العام، إلا أن ما يجدر ملاحظته هو أن هذا الموضوع لم يحتل مرتبة متقدمة في سلم الأولويات الإسرائيلية خلال الأعوام الأولى التي أعقبت قيام إسرائيل في 1948.
ويعزو بعض الدارسين ذلك لا إلى عوامل متعلقة بالخشية أو التحسب من تداعيات انفضاح الصورة الحقيقية على مواقف الرأي العام العالمي بشأن جوهر إسرائيل، وإنما إلى انهماك “الآباء البناة” (المؤسسين) في عملية ترسيخ دعائم “الدولة الوليدة”، لكونها “دعائم” انطوت على ارتكاب العديد من الموبقات الأخلاقية، التي لم يتكشف منها سوى النزر اليسير. ولا شك في أن مقولة بن- غوريون انطوت على إشارة بليغة إلى تغاضي الممارسات التي أعقبت إقامة إسرائيل عما يمكن أن يترتب عليها من إسقاطات تتعلق بصورتها العامة، ناهيك عن الإصرار عليها من طريق العمد.
“النهار”