تطرح أوضاع الثورة الثورية وما وصلت إليه مجموعة من الأسئلة، والموضوعات المهمة ذات العلاقة برؤاها، ومدى توحّدها، والتنسيق فيما بينها، وموقفها من الحراك السياسي الذي تعتمر به الساحة وتضجّ، بكل تلاوينه وأبعاده وموقعه من قادة الثورة الفعليين .
الذي لا شكّ فيه أن الانتفاضة ـ الثورة السورية أحدثت، بتضحياتها وصمودها، واستمرارها، مجموعة من المعطيات والمنجزات الجديرة بالتسجيل، وفتحت الطريق واسعاً لعملية التغيير ..
ـ لقد اقتلعت الخوف والرهبة والسكون والصمت من عموم الشعب، وهو أحد المرتكزات الهامة لديمومة نظام الاستبداد، فأطلقت العنان لخزين الكبت الشعبي ليعبّر عن نفسه، وإن بشكل متدرّج، وبصور عديدة واعية، ومنهّجية، وعفوية ومختلطة يدخل على خطها عديد النزوعات، والاتجاهات .
ـ عرّت، وبشكل سافر بنية النظام الأقلوية، القمعية، الدموية فأسقطت كل الغشاوة عن قابليته للإصلاح، أو شعاراته التسويقية عن التمايز، والشعبية، فكان الكل الأمني متوافقاً تماماً مع مملكة الرعب التي أشادها، وارتكازها الرئيس :
الأجهزة الأمنية، والشبيحة المليشياوية، فالمؤسسة العسكرية .
ـ والحقيقة أن عجز النظام عن إسكات الحركة الشعبية بالوسائل المعهودة لنظم القمع (الأمن وخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، والاعتقال المؤقت..) كشف بنيته المأزومة، المخلخلة من جهة، وقوة اندفاع الحركة الشعبية من جهة أخرى، وطبيعته الفاشية من جهة ثالثة بكل ما يمثله زجّ الجيش في المدن من مثالب ومخاطر وكواشف .
ـ إن سيناريوهات الاتهامات المسبقة لم تكن عفوية، أو بنت لحظتها، صحيح أنها أظهرت البلبلة في أوساط النظام، ومستوى أدائه الرثّ وهو يفبرك وجود عدو مخفي(مندسين وغرباء.. ف..) يشرعّن له استخدام القتل ومنتهى العنف، ويطمس جريمته.. إلا أنها كانت جزءاً من خطة مسبقة تبيّن رفض النظام المسبق للانصياع لأدنى المطالب الشعبية التي بدت عادية، وجزئية، وتطورت مع تطور فشله في وأد الثورة والقضاء عليها، فكانت قصص السلفيين، والعصابات المسلحة وطرح أرقام خيالية ل” الخارجين عن القانون”، و”أسلحتهم النوعية والثقيلة”.. كاشفاً آخر للطبيعة الدموية للنظام، ومحرّضاً قوياً لاتساع رقعة الثورة أفقياً وعمودياً حين بات شعار إسقاط النظام عاماً، ومركزياً .
ـ كانت أكبر وأهم مفاجآت الثورة السورية أنها بدّلت الصورة النمطية السابقة للشعب السوري عموماً، وشبابه على وجه الخصوص.. حيث تناولت الآراء والدراسات والمواقف المعنية لسنوات على معطى وحيد : تفريغ المجتمع والشباب من قابلية الاهتمام بالشأن العام، وبالتالي : اليأس من إمكانية إقدامه على القيام بدوره المأمول، وبما رتّب عديد المواقف الانتظارية، والرهانية في المعارضة بما سيجود به النظام، بينما كانت لوحة الإحباط، والملل، والقنوط هي السمة البارزة للعمل السياسي المعارض.. بانتظار تغيير ما غير مرئي، وغير محسوب..فكانت المفاجأة ـ الصدمة القوية بانطلاق شرارة الثورة من درعا، ثم اتساعها، ووصولها إلى ما هي عليه اليوم .
*****
هذه الوضعية المفاجئة التي أحدثتها الثورة السورية خلقت حراكاً نشيطاً يشمل جميع مكونات الشعب السوري، وفي المقدمة منه القوى المعارضة القديمة، وتلك التي تلد كل يوم، وحقنت جموع الناشطين، والمهتمين بدفق من الدماء متنوّع الكمية، والأصول، وربما زائد عن اللزوم، وبما لا تقدر على تحمله عديد الأوضاع السابقة.. فكان المخاض الكبير، وكان هذا الكم الهائل من المبادرات والمؤتمرات والتشكيلات والدعوات.. حتى أنه يشبه السيل الجارف الذي يمكن أن يأخذ في طريقه كل شيء ما لم يجر عقلنته، وفرملته، وتوجيهه ـ بكل روافده ـ ليصبّ في مجرى الثورة، ولخدمتها، وليس ليصبح عبئاً ثقيلاً عليها، أو يخلط التخوم والأوراق لصنع ما يشبه المتاهة التي قد تترك آثارها السلبية على مسار الثورة، ووتائرها، ومصائرها، خصوصاً وان المرحلة القصيرة من عمر الثورة لا تسمح، ولا بشكل من الأشكال ببلورات سريعة، وناضجة، وكافية لقياداتها الشبابية، باتجاه التوحيد من جهة، وصياغة برنامج المرحلة من جهة ثانية، والتكتيكات الواجبة للتعامل مع المعطيات والمتغيّرات، من جهة ثالثة، والإجابة المقتدرة على السؤال المركزي الذي يجول في خاطر الكثيرين عن مصير النظام وحيثيات وكيفيات سقوطه، من جهة رابعة .
ـ هنا، وفي هذا المنعطف تتعدد، وتتباين الرؤى بين الشباب الفاعل في الثورة، ومعهم طيف واسع من معارضات موزعة، وناشطين ومستقلين، وبين عموم قوى المعارضة الرسمية، وعديد الناشطين والمثقفين المعروفين .
ـ شباب الثورة، أو القادة الميدانيون، ووفقاً لنهج النظام الدموي، وحصائل الشهداء والجرحى والمعتقلين، ومسار الثورة المتعاظم لا يرون بديلاً عن مواصلة ضغط الشارع حتى إسقاط النظام .
وبرغم أن عملية الإسقاط، وزمنها، ليست واضحة تماماً في بياناتهم ومواقفهم، نلمس الإصرار على إدانة ورفض أي شكل من أشكال الحوار مع النظام، وإطلاق كمّ من الاتهامات لمن يدعو إليه، إلا وفق الصيغة المطروحة في بيان التنسيقيات : التنازل عن الحكم وتشكيل حكومة انتقالية ..
كما أن أسئلة مشروعة تُطرح هنا عن مدى وحدة عمل التنسيقيات فيما بينها، ووحدة رؤاها، ومواقفها، وهي الأسئلة التي يصعب الإجابة الوافية عليها، طالما أن الظروف لم تسمح بعد بالإعلان عن هيكلية التنسيقيات، وإطارها القيادي الموحد، ناهيك عن بعض الأقوال التي تتحدث عن وجود عديد التنسيقيات في المدينة الواحدة، وتعدد الخلفيات والمواقف، والتصريحات، والمبادرات، والمشاريع .
*****
وكما تناولت في مقال سابق قبل أيام عن حق وواجب المعارضة بالتوحد، وأهمية التقائها حول مشروع متفق عليه، وأهمية التناغم مع التنسيقيات، ومع سقف المطالب الشعبية، وأهمية ترشيد عمل الشباب، ودعمهم بالخبرة والأفكار المساعدة حول المسار والمخرج..
فإن الملاحظ أن أغلبية القوى المعارضة التقليدية تجنح إلى طرح الحوار مع النظام كوسيلة مضمونة لإيجاد مخرج ما للوضع المأزوم .
ـ هنا نلاحظ فروقاً بيّنة بين من يضع شروطاً (ثقيلة) يعتبرها مقدمات وثوابت لأي عملية حوار، وبين من يتراخى أكثر بإظهار قابلية مفتوحة للدفع نحو الحوار، باعتباره، وفق هذا الرأي، الوسيلة الوحيدة لعملية الانتقال(التدريجي، والسلس، والممكن) للنظام البديل ..
ـ وإذا كان للكثير من دعاة هذا الاتجاه مبرراتهم، وأسبابهم، وتقديراتهم حول مسار الأوضاع، وموازين القوى، والاحتمالات المفتوحة التي يمكن أن تتجه نحوها الأوضاع السورية، أو يدفع إليها النظام المأزوم..وما يطرحه البعض من ملاحظات على مواقف شباب الثورة (الحماسية، المندفعة)، أو التي لا تقيم وزناً لطبيعة قوى النظام وما يملكه من أوراق، ولدور العوامل الإقليمية، والخارجية، وعملية التغيير المنشودة، وواقعية شعار إسقاط النظام..إلخ .. وما نحدثه هذه التباينات من تعارضات وآثار سلبية على الثورة ومصيرها..
فإن وحدة عمل التنسيقيات في إطار جامع، واختيار قيادات لها، وطرح برنامج التغيير.. إنما تمثل اليوم المهمة الحيوية الأولى التي يمكن أن تعرف كيف تستفيد من كل الجهود الموجودة، وكيف تبني علاقات تفاهمية مع قوى المعارضة وأشكالها بعيداً عن التشنج، ولغة الاتهام، ومواقف ردود الفعل.. حينها يمكن للقوى الشبانية القائدة أن توظف كافة الطاقات في خدمة الهدف المشترك، وان تمنع الانقسام، والتوزع، وتضع حداً للمتاجرين بها وبدماء الشباب، أو الركوب عليها تحقيق لأهداف ومصالح ذاتية .
ـ بدورها قوى المعارضة التي تكثر اليوم من تشكيلاتها ومؤتمراتها وتصريحاتها، وتصدّر بعضها لواجهة الأحداث.. يجب أن تعي أن ثورة الشباب هي التي أعادتها إلى الحضور، وأنها لولاها لظلت مهمّشة على لائحة انتظار كرم النظام، ولذلك يُفترض فيها ألا تفرض رؤاها على الشباب، بل أن تعمل للتوافق والتناغم معهم ومع مطالبهم .
وطالما أن الجميع لا يكل ولا يمل حديثاً عن بذل كل جهد لرفد ودعم الثورة، واعتباره رديفاً، وليس وصياً، أو بديلاً، فمن الأولى بهم الالتزام بما تطرحه التنسيقيات، وليس تجويفه والالتفاف عليه تحت هذا المسمى، أو ذاك .
كاتب وروائي ـ الجزائر