منذ تدخلها العسكري المباشر في سورية في سبتمبر/أيلول من عام 2015، قامت المقاربة الروسية تجاه الملف السوري على ضرورة الحفاظ على النظام السوري الذي تنظر له روسيا على أنه ركيزة أساسية لنفوذها الاستراتيجي في “الشرق الأوسط”، حيث رأت روسيا أنّ سقوط هذا النظام سوف يؤدي إلى الإضرار بمصالحها ليس في سورية فحسب، وإنّما في منطقة “الشرق الأوسط” ككل، لذا عملت منذ تدخلها العسكري المباشر على استراتيجية متكاملة بدأتها بمسار عسكري استطاعت من خلاله تحقيق تفوّق واضح لصالح قوات النظام السوري والميليشيات المساندة له من خلال اتباع استراتيجية الأرض المحروقة التي اعتمدت على تكثيف القصف الجوي قبل الاجتياح، اتبعته بمسار تفاوضي-عسكري ركّز على ما سُمّي باتفاقيات مناطق خفض التصعيد والمصالحات التي مكّنت قوات النظام السوري من إعادة السيطرة على مساحات واسعة من سورية بلغت في الوقت الراهن 63 بالمئة من مساحة سورية، بعد أن كانت هذه المساحة لا تتعدى 10 بالمئة قبل التدخل العسكري الروسي المباشر، لتكمل من بعدها روسيا استراتيجيتها بمسار السياسة الواقعية التي ركزت على محاولة إعادة إنتاج النظام السوري من خلال التعاطي مع المشهد السوري بشكل أكثر واقعية لرسم ملامح تفاهمات جديدة في سورية ومحاولة فرض مسارات للحل السياسي بديلاً لمسار لجنيف وللقرار 2254.
وفي تطبيق لسياستها الواقعية، شهدت الفترة التي أعقبت قدوم إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن تحرّكات روسية متصاعدة في الملف السوري، أشارت إلى بعض الملامح الأساسية في الموقف الروسي تجاه القضية السورية ومسار التسوية فيها، والتي يمكن وضعها في إطار المساعي الروسي لإعادة إنتاج النظام السوري، بحيث يمكن رصد ثلاثة محاور أساسية للتحركات الروسية تدلل على مساعيها هذه، وهي:
– رعاية روسية لمحادثات بين النظام السوري و”إسرائيل” عنوانها العريض السلام أو “التطبيع”، وفي إطار هذا المحدثات كان لافتاً الرعاية الروسية لعملية تبادل معتقلين بين النظام السوري و”إسرائيل” نتج عنها تسليم فتاة إسرائيلية دخلت الأراضي السورية من القنيطرة مقابل اطلاق اثنين من رعاة الأغنام السوريين كانت “إسرائيل” قد ألقت القبض عليهم خلال الفترة الماضية، وما أتبعه من تسريبات عن شراء “إسرائيل” لقاحات روسية وتقديمها للنظام السوري، إلى جانب عمليات نبش روسية لمقبرة مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق بحثاً عن رفات جنود إسرائيليين قتلوا في معركة السلطان يعقوب في لبنان عام 1982 وتم دفنهم في سورية، كذلك البحث عن رفات الجاسوس الإسرائيلي كوهين الذي أعدم في دمشق عام 1965.
طبعاً التحرك الروسي تجاه رعاية محادثات بين النظام السوري و”إسرائيل”، يدخل في إطار الإدارك الروسي لاستحالة أي تسوية نهائيّة في سورية من دون التعاون الأمريكي، حيث يسود اعتقاد لدى الكثير من الروس أنّ لـ “إسرائيل” تأثير واضح على استراتيجية الولايات المتحدة في سورية، لذا يسعون للحصول على مساعدة “إسرائيل” في تطوير الترتيبات السياسية مع الولايات المتحدة لدفعهم لسحب قواتهم بالكامل من سورية، وقبول بالنظام السوري، مقابل تقديم الروس ضمانات أمنية لـ “إسرائيل” ولأمريكا، وخصوصاً فيما يتعلق بالوجود الإيراني في سورية.
– رعاية محادثات بين النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية “قسد”، عنوانها الأساسي محاولة إنقاذ النظام السوري من الوضع الاقتصادي الصعب الذي وصل إلى حافة الانفجار، من خلال إعادة تزويد النظام السوري بالنفط والقمح، وقد أسفرت هذه المحادثات إلى حل العديد من الخلافات التي نشبت بين الطرفين في الفترة الأخيرة على خلفية رفض “قسد” تسليم عين عيسى شمالي الرقة لقوات النظام، وامتداد هذا الخلاف والتوتر إلى مدينة القامشلي التي شهدت محاصرة “قسد” المربع الأمني التابع للنظام في المدينة واعتقال عدد من عناصره وقياداته الحزبية. حيث نتج عن المحادثات التي جرت في دمشق برعاية روسية تبادل المعتقلين بين الطرفين إلى جانب استئناف توريد النفط من مناطق سيطرة “قسد” إلى مناطق النظام السوري باشراف روسي بعد انقطاع استمر لمدّة أكثر من شهر على خلفية التوترات السابقة، واللافت في هذا الموضوع أن استئناف عمليات توريد النفط إلى النظام السوري جاء بعد الموقف الأمريكي الذي أكّد أن مسألة اسقاط النظام السوري لم تعد من ضمن أولويات إدارة بايدن، كما جاءت بعد أيام قليلة من تعرّض مناطق تكرير النفط وبيعه في المناطق المحررة في “درع الفرات” إلى ضربات صاروخية من جانب روسيا وقوات النظام.
– حراك دبلوماسي روسي لفك عزلة النظام السوري، وإعادة وصله تدريجياً بمحيطه، عنوانه العريض إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، حيث شهدت الأيام القليلة الماضية حدثان مهمان في هذا الإطار، الأول هو زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى الخليج العربي من أجل دفع دولها إلى إبداء مرونة في سياستها إزاء النظام السوري وتحديداً من بوابة عودته إلى جامعة الدول العربية، حيث كان لافتاً تصريح وزير الخارجية الإماراتي المرّحب بفكرة عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية وانتقاده لقانون قيصر وتأثيره على النظام السوري والشعب السوري، وهو ما أكّده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بنظيريه التركي والقطري في الدوحة بقوله: “ليس بوسعي إلا أنّ أرحّب ببلورة موقف جماعي لدى الدول العربية بشأن ضرورة عودة سورية إلى جامعة الدول العربية”.
أما الثاني فكان اللقاء الروسي -التركي -القطري في الدوحة واطلاق مسار سياسي جديد في محاولة من روسيا للترويج لرؤيتها حول الحل السياسي في سورية، وإيجاد خرق مسبق في القطيعة الإقليمية والدولية التي يعيشها نظام السوري قبل الانتخابات الرئاسية المقررة منتصف العام الجاري، بعد أن فشلت روسيا في إقناع الغرب بإعادة تأهيل هذا النظام، الذي لا يزال يصر على وأد أي جهد من شأنه الإسراع بالتوصل لحل سياسي للقضية السورية.
وعلى الرغم من النجاح الروسي النسبي في تجميع بعض الأصوات العربية (الإمارات، العراق، الجزائر، مصر، لبنان)، إلا أنّها ما زالت تواجه صعوبة في توليد قرار عربي جماعي يرفع الحظر عن النظام السوري لأسباب كثيرة أهمها الخوف من الإدارة الأمريكية الجديدة التي جددت التزامها بقانون “قيصر” والذي يتم بمقتضاه فرض عقوبات على الدول والكيانات التي ستتعامل مع النظام السوري.
بالمحصلة، يمكن القول أنّ الدبلوماسية والحراك الروسي الأخير يسعى وفق المجريات السابقة، إلى محاولة تجميع حلف من الدول العربية والدول المجاورة لتعويم النظام السوري وحشد الدعم السياسي والاقتصادي له قبل طرح الموضوع على الطاولة الأمريكية، وبالتالي الحصول على مكسب فك العزلة عن النظام، مما يعني حصول روسيا على أوراق إضافية لتثبيت مصالحها الاقتصادية في سورية، وبالتالي تأكيد انتصارها العسكري بانتصار سياسي واقتصادي.