عند إخضاع مدارس علم النفس ومناهجه المختلفة، لعملية تصنيف وصفي تنتهي بتوزيع براءات الاختراع العلمي، غالباً ما يستبعد التحليل النفسي بوصفه أقرب إلى الفن من العلم. إن هذا التشكيك، وبغض النظر عن أغراضه ودوافعه الأيديولوجية، ليس في غير مكانه. فقد وضعت أسس هذه الممارسة، منذ أكثر من قرن، بناءً على تعاليم رجلٍ واحد، الأب المؤسس سيغموند فرويد، الذي استند أكثر ما يكون على حدسه.
وضع فرويد حدسه فوق التجربة العلمية- بمعناها الضيق- لصياغة نظرية جامحة تنقصها ضوابط التجربة العلمية. الانصياع الى حدس رجل من أجل تطوير فهمنا للنفس البشرية قد يبدو أشبه باتباع CULT. فهو، مهما كان مبدعاً وخلاقاً، الا أنه في النهاية مجرد رجل صاحب مخيلة خصبة، وإن كان هناك من علّمنا شيئاً عن قوة الخيال البشري، فهو فرويد نفسه. في غياب الحجة والدليل العلمي القاطع، ما الذي يدعونا الى الوثوق في ترهات وخيالات هذا الرجل الذي يدّعي فك ألغاز النفس البشرية؟
قبل محاولة الإجابة عن سؤال الشرعية العلمية، لا بد من معاينته من حيث الصيغة والافتراضات الضمنية. السؤال شائك لأنه يستدعي تعريف سمة “العلمية” التي غالباً ما تحدد بناءً على معيار العلوم الطبيعية. إلا أن اختزال العلم في المنهجية العلمية التجريبية، وإن كان يصلح لدراسة الظواهر الطبيعية الثابتة والقابلة للتنبؤ، فهو لا يتناسب مع دراسة النفس البشرية العشوائية في حركتها والفوضوية في دينامياتها. أما اختزاله في الموضوعية، فيجعله غير قادر على التعاطى مع الذاتية البشرية.
إشكالية المنهجية والتجريب
من الصعوبة البالغة تصنيع وإعادة إنتاج المواقف الاجتماعية في المختبرات، بغية استخراج خلاصات نفسية منها. قد تخرج التجارب المخبرية القائمة على التعميم، بأرقام ونبوءات حول سلوكيات جماعة ما، لكنها تخفق في فهمها للفرد. وإن كان المختبر مكاناً ملائماً لمراقبة ودراسة النفس الجماعية، فإن الذات الفردية مكانها الأمثل هو على مشرحة المُمارس النفسي- أي الكنبة التحليلية- وإن كان هذا الممارس لا ينتمي بالضرورة الى المدرسة التحليلية، انما يملك استعداداً لتحليل الحالة الفردية الماثلة أمامه بدلاً من اللجوء الى التصنيفات الجامدة والحلول الجاهزة المستقاة من التجربة الجمعية.
ثم إن أخذنا مصطلح التجريب إلى جذره الأبسط، فقد كان فرويد من أوائل التجريبيين في ميدان علم النفس، وذلك باعتزاله عالم العلم/الطب، وانتقاله الى ميدان اللغة والعمليات غير المرئية (اللاوعي).. لا العكس. أما أدلته الامبريقية، فتحمل أسماء وألقاباً فردية مثل دوار، آنا أو، الرجل الجرذ، والرجل الذئب… وهو ما يحيلنا الى الإشكالية الثانية: انتفاء الموضوعية.
إشكالية الموضوعية
ينظر التحليل النفسي الى الفرد الواحد بوصفه كنزاً من الأدلة الامبيريقية، وذلك انطلاقاً من كونه فرداً محللاً لذاته والآخرين، وبالتالي مُنتِجاً للمعرفة للنفسية. وعبر هذا التحليل الواعي حيناً، واللاوعي أحياناً، تتشكل ملامح الذاتية الإنسانية. المعرفة النفسية في جوهر التحليل النفسي، نظريةً وعلاجاً، وهي إحدى الميزات التي يتمتع بها التحليل النفسي دون غيره من الطرق النفسية التي، في ادعائها معرفة الفرد وتشخيصه وتصنيفه، في غضون جلسة او اثنتين، تعفيه من معرفته لذاته.
التحليل النفسي: سؤال فلسفي وفني
المنهجية التحليلية ليست علمية بالكامل، وهي تحمل سمات الفن وجمالياته، هذا إن عرّفنا الفن كأداة لإنتاج الفرادة والتفرد. هي في أفضل الأحوال، نظرية هجينة، تستمد من العِلم آليات تفكيك أنظمة ومعادلات الذات، ومن الفلسفة أسئلتها وإشكالياتها، ومن الفن رمزيته. لا داعي للتنكر لهذا الجانب الفني من الممارسة التحليلية، فالتعاطي مع الذات البشرية يفترض بعض الفن وإلا لكان الأمر في غاية الفجاجة، كما هو الحال مع الطب النفسي بعقاقيره المخدرة وأشرطته المكهربة.
لكن، بمعزل عن ذلك كله، يمكن تفهم وتبرير تحفظ الممارسة العلمية والمهنية النفسية إزاء المقاربة التحليلية، بل وتبرؤها منها. ففي مواجهة متاهة الذات البشرية، ما نلتمسه جميعاً- علماء وباحثين وممارسين ومرضى وعملاء- هو بعض الإجابات، وليس مزيداً من الأسئلة. لكن المعضلة ليست في نقص الإجابات فحسب، وإنما أيضاً في الأسئلة المطروحة وصيغة طرحها. السؤال العلمي هو خير دليل على ذلك. هو سؤال شرعي بلا أدنى شك، لكن هل هو السؤال المناسب؟ هل في العلم يكمن خلاص النفس البشرية وانعتاقها؟