الميل، لدى البعض، هو في طرح الهوية “المشرقية” كبديل أو نقيض للهوية “العربية”، في لبنان وسوريا ابتداءً، ثم فيما يتعداهما لدى بعض جوارهما، الأردن وفلسطين، والعراق بقدر من التكلف.
الإشكالية في الواقع ليست في مضمون الهوية، بل في استعمالاتها السجالية، والسعي إلى تقديمها كبديل لفظي لهوية “مسيحية” متشكّلة، على تضاد مع الهوية “العربية”، بما يشبه الاستعمالات السابقة، للهوية “القومية العربية” كغطاء للانتماء الإسلامي، الفئوي الطائفي الجماعاتي قبل الديني، واللجوء المقابل إلى اعتناق “القومية اللبنانية” للتورية عن هوية “مسيحية” في لبنان، مجدداً بالمعنى الطائفي قبل الديني.
المراد قد يكون بالتالي استقدام الهوية «المشرقية» كواحدة من الهويات “ما بعد العربية”، والتي شهدت خروجاً صريحاً عن “العروبة” في مواضع عدة. حالات الخروج هذه لم تمتثل لإطار واحد، بل اتخذت أشكالاً متباينة.
المثال الأكثر شدة في التخلي عن الهوية “العربية” هو كردستان بالتأكيد، دون حرج أو خلاف ابتداءً، في العراق، بعد أن عاشت المحافظات ذات الغالبية السكانية الكردية استعماراً استيطانياً “عربياً” في ظل نظام “البعث” الذي سعى إلى تفكيك الهوية الكردية وتبديل الواقع السكاني حيث كانت حاضرة.
على أن مرحلة ما بعد “العروبة” لا تقتصر على الجلي من حالات مقاومة التسطيح في الهوية، كما في كردستان العراق، بل تكاد أن تشمل كامل الفضاء المكاني الذي كان قد توسع منظرو العروبة في أواسط القرن العشرين في تصويره “وطناً عربياً”.
المنطقة المغاربية شهدت بروز الطرح “الأمازيغي”، والذي يحاكي في العديد من أوجه أساليبه وتصوراته وخطابه واختزالاته غريمه العروبي، سواءاً في فرزه المجتمع الوطني إلى طارئ وأصيل، أو في سعيه إلى تجاوز الإطار الوطني إلى آخر أكبر منه، أو في إعادة صياغته للتاريخ لإضفاء قناعاته عليه، أو في توجهاته اللغوية التي تريد أن تكون تمكيناً للمقموع فيما هي بدورها سلطانية.
ولكن، بغض النظر عن أوجه الإفراط هذه، فإن الطرح الأمازيغي قد حقّق نجاحاً مشهوداً وتمكن من تبديد التوجهات العروبية “التأحيدية” ووضع الهوية العربية نفسها في موقع الدفاع والتحفظ.
عند الطرف الآخر من الفضاء “العربي”، يبرز نجاح آخر، وإن كان أقل وضوحاً، وهو في تشكيل الهوية “الخليجية” وتثبيتها، وإن كان المسمّى الذاتي لهذه الهوية لا يعتمد “الخليجية” كاسم بل كصفة ضمنية. في دول الخليج، اتفق حكامها أم اختلفوا، البعد الوطني للهوية قد تأصلّ وغلب، ولكن التدرج إلى ما يتعداه، يستقر لدى الأكثرية عند المستوى “الخليجي”، إذ يجري تأطيره على أنه الأصالة العربية بذاتها. هي “أصالة” على أي حال مانعة، يكاد “العرب” غير الخليجيين فيها أن يصنّفوا “مستعربين”.
ذوبان “العروبة” تشمل كامل ديار سلطنتها السابقة.
عروبة مصر كانت دوماً مصرية أولاً من حيث المضمون، مهما بالغ البيان السياسي في مراحل ماضية بزعم خلافه. بل من النادر استشفاف قراءات مصرية على مدى العقود تفترض اشتقاق الهوية المصرية من العروبة.
العكس هو الصحيح، حيث السائد هو أن العروبة، والتي ارتدتها مصر مع اعتناقها الإسلام، هي أولاً وسيلة لتحقيق الصدارة التي تستحقها مصر في جوارها وفي العالم أجمع. مصر لم تكن بالتالي بحاجة إلى تأليف هوية “ما بعد عربية”، فالصفة “العربية” كانت، وإلى حد ما لا تزال، رداءً لمصر، لا جوهراً لها. أما مسألة تصالح مصر مع تاريخها وحضارتها فشأن آخر. على أن الاستعراض المسرحي، كما في نقل مومياءات الفراعنة، ليس هو هذا التصالح.
لكل من العراق (خارج كردستان) والسودان خصوصيته بما يجعله يحاكي التجربة المصرية، وإن بكم أكبر من الإبهام لافتقاد كل من السياقين للوحدة التاريخية التي تلازم مصر.
أما الحالة “المشرقية”، فهي الغارقة في الالتباس، رغم وفرة المقومات الحضارية والتاريخية لهوية مشرقية واضحة. بل الواقع هو أنه قد جرى طرح هوية مشرقية، بالصيغة الحازمة، مرتين خلال القرنين الماضيين، وإن شاب كل طرح من الشوائب ما أفقدها زخمها.
المفارقة، حين تقدّم الهوية “المشرقية” كبديل وخصم للهوية “العربية”، هي أن الهوية “العربية” هي بحد ذاتها الصيغة الأولى للهوية “المشرقية”. أي أن رسم المعالم الاجتماعية والتاريخية والحضارية واللغوية، والذي أفضى إلى إنتاج القومية العربية برمّتها، وأتاح لها الانتقال من مسقط رأسها إلى شواطئ المحيط والخليج بأشكال مختلفة، كان مجهوداً مشرقياً يسعى إلى تبيّن الهوية الذاتية المشرقية فيما يتجاوز الاختراقات التي تعرّضت لها والطمس الذي طالها نتيجة غلبة الانتماءات الدينية الوافدة.
تلقي الأوساط الاجتماعية والفكرية المختلفة، خارج المشرق، للهوية “العربية” (المشرقية) أعاد ترتيب مقوماتها، أهمل في العديد من الأحيان ما كان أساسياً فيها، وأضاف إليها، قصداً أو عَرَضاً، ما كانت الصيغة الأولى قد سعت إلى تفنيده، ثم ردّها إلى الوسط المشرقي بما يشابه نقيض الإصدار الأول، ليجري توظيفها، فيه كما خارجه، لأغراض تختلف باختلاف العامل والزمان والمكان.
ليس ثمة “عروبة” عضوية موضوعية. كل “عروبة”، كما كل انتماء جامع، هي تعبير عن قراءة خاصة محلية تنسجم مع الحاجة إلى تعزيز المواقع إزاء الآخر الداخلي والآخر الخارجي.
ربما أراد “المشرقيون” الأوائل، في القرن التاسع عشر، التوفيق بين إرث المشرق وعظمة مصر، إذ تشترك مع مشرقهم بلسانه العربي، فكان الرابط اللغوي أساس الهوية المتشكلة، قبل أن تبرز أوجه أخرى وفق الحاجة الوظيفية في سائر أماكن انتشار هذه الهوية: ديني اجتماعي في المغارب، نَسَبي في الجزيرة العربية، عرقي في العراق والسودان.
إذ تشكلت العروبة كانتفاخ سلطاني للهوية المشرقية في إصدارها الأول، جاء الإصدار الثاني لهذه الهوية في النصف الأول من القرن الماضي بشكل “القومية السورية”، والتي نادى بها أنطون سعادة، في استعادة للتأكيد على الخصوصية المشرقية. “السوريون” وفق تعبيره “أمة تامة”.
في البرازيل، كان يطلق على المهاجرين المشرقيين إلى العالم الجديد، في مرحلة أولى، اسم “توركو”، لقدومهم من الولايات العثمانية “التركية”. ثم أصبحوا “سوريين” في زمن الانتداب (قبل أن يتميز اللبنانيون منهم باسمهم الوطني، ثم يعمد من يفضّل التنصل من خلفيته اللبنانية السورية التركية هذه إلى التبجح بـ “فينيقيته”).
أنطون سعادة، المهاجر العائد مع الانتداب، رسا مع البرازيليين على تسمية المشرق بسوريا. على أن مسعاه إلى التميّز جاء مقروناً برغبة بالتوسع، فرسم حدوداً خيالية للأمة السورية المفترضة تجمل بلاد الشام برمتها طبعاً، وتضمّ العراق والكويت وقبرص وسيناء وأجزاء من تركيا.
إذا كانت الهوية المشرقية الأولى المبنية على اللغة قد تعرّضت نتيجة انفتاحها للتجيير والتبديل، فإن الهوية المشرقية الثانية، “القومية السورية”، قد حوت متناقضات عدّة أوهنت من إمكانية نموّها وتأصّلها. هي كانت ملاصقة لشخص مؤسسها ولرؤيته السياسية التشذيبية، ولنتاجه الفكري المتنقل من الإبداع إلى التعسف، ولإعجابه بالمنحى القيادي الفاشي.
هو الزعيم، القائد الأعلى للحزب ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية. لم تتمكن هذه الهوية من تجاوز الهامش، رغم أنها أنجزت، في صفوف مؤيديها، تحقيق قناعة غلبة الانتماء “القومي” على التوجه الديني، فكانت تشطيات الحزب السوري القومي الاجتماعي، رغم ولاءاتها المشبوهة والأهواء التي تتنازعها، إحدى التجليات القليلة للقناعات العلمانية في المنطقة.
لا يمكن وصف شد العصب الطائفي خلف قناع “المشرقية”، والذي يخرج إلى العلن أحياناً اليوم، على أنه صيغة ثالثة للهوية المشرقية. ولكنه يشير إلى أن طاقة كامنة لهذه الهوية تستدعي النظر بجدواها لتأطير الواقع وإيجاد سبل تنفيس الاحتقانات والصراعات.
في هذا السعي إلى استصدار تلقائي، خارج الأطر الصارمة، لهوية مشرقية متجددة، قد يكون من المفيد اعتبار وجهين من الخلاصات المتبينة من الإصدارين السابقين، كما من تجارب هويات “ما بعد العروبة” على مضى الفضاء العربي.
الوجه الأول، في الطارئ والأصيل. لا بأس بالتذكير بأن الإسلام، وهو الدين الذي ظهر في القرن السابع الميلادي، هو بالفعل “طارئ”، أي حديث العهد عند اعتبار الألفيات العديدة من تاريخ المنطقة، وأن غلبته على المشرق لم تكن شهر عسل دائم.
ولكن، بالمقابل، لا بد من التذكير كذلك بأن المسيحية بدورها لم تستتب في المشرق كدعوة محلية تسارع إليها الملأ، بل إن غلبتها تحققت بفعل القهر بعد اعتمادها من القياصرة، وإن أهل البلاد، من عامة الناس إلى المفكرين والكتاب والحكماء قد قاوموا فرضها، فقُتلوا ودمرت معابدهم وأحرقت كتبهم، وكانت القطيعة مع السلف الأول.
ثمة زمن تغيب عنّا ذكراه كان جلّ أهل البلاد فيه، أو ربما جميعهم، من الصابئة وأهل الحكمة. أصداء تراث هذا السلف قد تسللت لتبلغنا في شعائر بعض الملل ونصوصها، وإن احتاجت أن تُفكّ طلاسمها لتُسمع أصواتاً أسكتها تاريخ استولت عليه الدول والأديان.
ليس من من شأنه زعم حصرية “الإصالة” ورمي الآخر بالطارئ. مشرقيو اليوم، على اختلاف هوياتهم الذاتية، وطنية وطائفية، هم أحفاد مشرقيي الأمس البعيد. لهم بالطبع، إن طاب لهم، التمسك الوثيق بدينهم، إسلاماً ومسيحية ويهودية وغيرها، ولكن ما لا يسعهم تجاوزه هو أن حضور سلفهم، مادياً ومعنوياً، سابق لما اعتنقه بعض آبائهم من أديان. كتبهم الدينية تخبرهم بخلاف ذلك، وتقصر أخبار القرون الأولى على آدم ونوح وإبراهيم. هؤلاء، وسائر القصص الديني، في الواقع والوقائع، غائبون عن السجّل المدوّن في الأرض نفسها، وفي النصوص والوثائق التي تشكل الذاكرة المطموسة لأهل هذه الأرض. ربما أن الأوان قد حان لأن نتذكر السلف.
الوجه الثاني، في التفرد والتمازج. ربما أن الصعوبة في الإصدارين السابقين للهوية المشرقية، أي في تفريط الأولى بالخصوصية المشرقية، وإفراط الثانية فيها دون جدوى، تعود إلى أنه لا خصوصية قطعية متحققة للمشرق في تركيبته السكانية. بل المشرق أرض اللقاء، متاخم للعراق وإيران، ومنهما، كما تشير دراسات الخلفية النسلية، جاء عديد الفلاحين الأوائل إليه ليجعلوا منه وجواره هلالاً خصيباً. هو ملاصق للجزيرة العربية، والتي كانت على مدار التاريخ قلباً نابضاً يضخّ الهجرات والغزوات له وغيره. والمشرق كذلك متواصل دوماً ودائماً، عبر البر والبحر، مع اليونان ومن تستوعبه، وحاضن في صلبه للأرمن، ومستقبِل لمصر والمغارب وسائر العالم المتوسطي.
فليفخر من شاء، مع عمرو بن كلثوم، بأعلويته وأولويته. فخره يحسب للمشرق وليس عليه. هو كامل “العروبة”، كامل “المتوسطية”، كامل “الرومانية”، كامل “العثمانية”، كامل الحضارة، وإن حرم نفسه وحرمه آخرون من إدراكها.
“الإصدار الثالث” للهوية المشرقية ليس في طور الإعداد والتحقق اليوم. استعمال الكلمة يتكرر بالحسن والسوء، ولكن دون قدرة على الاستقطاب. وإلى أن تتشكل رؤية تجنب الكلمة والمفهوم الأبعاد الإقصائية الفئوية، ربما أنه في هذا الغياب قدر من الإيجابية.