أسقطت انتفاضة القدس بريستيج الديمقراطية العرجاء التي يتباهى بها الصهاينة وحلفاؤهم ورعاتهم، لتكشف عن فوات واستبداد لا يقلّ عمّا تعيشه شعوب المنطقة، ولتظهر طغياناً وتمييزاً عنصرياً مازال الفلسطينيون يعانون منه منذ قيام دولة الاستيطان وحكوماتها المتعاقبة بسياساتها العنصرية الاستيطانية وصولاً إلى نتنياهو الذي أعمَل في الفلسطينيين الاضطهاد بكلّ أشكاله وألوانه، لتقف عند محاولة إخلاء سكان حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، مترافقة بمحاولات اجتياح الأقصى من قبل المتطرفين اليهود ومحاصرة المعتكفين فيه بحماية قوات وشرطة الاحتلال، لتشعل فتيل انفجار المقدسيين الذين واجهوا الجنود والمستوطنين بصدور عارية إلا من الإيمان بحقّهم في الحياة والحرية. وتتدحرج كرة اللهب لتجتاح فلسطين التي ظُنّ أنها أسلمت قيادها للمحتلين منذ 1948.. وعادت قضية فلسطين لتصدّر المشهد؛ وتعلن العصيان على كل المشاريع التي تعمل لابتلاعها، وتُظهر رفضها الاحتلال، وتهزم أحلام التطبيع مع المحتلّين. الأمر الذي دفع بالكثير من الساسة والخبراء للتأكيد على حقائق تقول: ( إن رفع الأعلام الفلسطينية في اللدّ، والصدامات في الناصرة وحيفا والمدن الأخرى بين مواطني إسرائيل العرب واليهود، هي أخطر من غزة” بالنسبة لإسرائيل ). وليس أقلّ من ذلك تساؤل بعضهم ( إن كان لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها، فماذا عن حقوق الفلسطينيين؟ )، ما يعني أن قواعد جديدة للتعامل يجب إرساؤها والعمل بها بعد أن أثبت الواقع أن القدس لا يمكن احتلالها، وأن إسرائيل لا تختلف في شيء عن الأنظمة القمعية التي تحكم دول المنطقة برمّتها.
وهو ما دفع بلينكن وزير خارجية أميركا للتعبير عن قلقه البالغ من العنف في شوارع “إسرائيل”، وأجبره على تأكيد أنه يحقّ للإسرائيليين والفلسطينيين المشاركة في احتفالات الأعياد من دون خوف من العنف، وأنهم يستحقون تدابير متساوية من الحرية والأمن والكرامة والازدهار. وأما المتحدث باسم مفوضية حقوق الإنسان، روبرت كولفيل، فيؤكد بأن ” أوامر الإخلاء الخاصة بحي الشيخ جراح في القدس تنتهك التزامات إسرائيل بوصفها قوة احتلال، وعليه فهي المسؤولة عن الحفاظ على الهوية الجغرافية والديموغرافية للقدس الشرقية”.
لقد استطاع حِراك شباب القدس بسلميّته التأكيد على أن وضع القدس فيه كلّ الخطوط وبكل الألوان، وأنه ليس للسياحة السياسية وصراعاتها أو تجريب فنون القمع لكسب أصوات الناخبين، بعدما التفّ العالم حولهم – متعاطفاً- في مناهضتهم للعنصرية ودفاعهم عن حقوقهم الإنسانية ومقدساتهم، وهو ما سيدفع للضغط على حكومة الاحتلال للتهدئة والتراجع عن قراراتها في معالجة كل ما له علاقة بالقدس الشرقية، على الرغم من حرفها للأحداث والتصعيد العسكري تجاه غزة الذي يرمي إلى إجهاض ما تحقّق على الصعيد الوطني الفلسطيني، ليكون لافتة تعلّق على مشجب محاربة الإرهاب وحسب، وليكون العنوان المتداول قصف وموت ودمار أسموه “حارس الأسوار”، يقابله قصف صاروخي أسموه “غزة سيف القدس”.
إنّ “تحوير” الهبّة المقدسية عن مسارها لإفراغ ما فيها من إيجابيات تخدم القضية الفلسطينية عامة، وتخرجها من عوالم الإهمال الدولي الذي سلّم بمآلاتها بعد كل التطورات التي مرّت، عربياً وإقليمياً ودولياً، له حساباته الفلسطينية والإسرائيلية الداخلية، وله تفاعلاته الإقليمية والدولية التي لا يمكن تحييدها أو عدم أخذها بنظر الاعتبار.
أخيراً.. لا يخطئ من يقول: إن كبا الربيع العربي، وما بقي منه تلتهمه حرائق الهزائم، فإن الربيع الفلسطيني بنكهته المقدسية أتى ليجري النسغ في الآمال التي أوشكت طيّ أشرعتها..