في نهاية عام 2017 وبشكل دراماتيكي سريع، عاش تنظيم “داعش” حالة انهيار سريع لمشروع “الخلافة”، بعد هجوم متزامن استهدف مناطق سيطرته في سوريا والعراق. هذا الهجوم شاركت فيه الحكومة السورية المدعومة روسياً، والحكومة العراقية المدعومة بغطاء جوي من التحالف الدولي، إلى جانب الشريك الأبرز للولايات المتحدة الأميركية في تلك المعركة، “قوات سوريا الديموقراطية”، التي تولت مهمة القضاء على التنظيم في المناطق السورية الواقعة شرق نهر الفرات.
مرحلة الانهيار السريع لـ”داعش”، أدخلت القوى المعادية للتنظيم في تلك المرحلة بحالة من سوء الفهم، الذي يتمثل في التسرع بإعلان النصر على التنظيم والقضاء عليه وعدم التفريق بين مشروع “داعش” السياسي وهو مشروع الدولة بمسماها الإسلامي “الخلافة”، وحالة “المنظمة” أو التنظيم بوصفه مجموعة قتالية متمردة، تملك قدرات هيكلية وتنظيمية ومصادر تمويل ودعماً وسجلاً حافلاً من التجارب الناجحة، للعودة عبر العمل المنظماتي السري، كما في حالة نشأتها الأولى في العراق وبعد مرحلة القضاء عليها عام 2007 على يد الصحوات.
عدم التقدير الجيد للأطراف المعادية للتنظيم لم يتوقف على عدم التفريق بين مشروع التنظيم السياسي وحالة المنظمة المتمردة فقط، بل وقعت تلك الأطراف في سوء تقدير لقوة التنظيم سواء خلال معركة القضاء عليه أو بعد إعلان هزيمته في سوريا والعراق، فما هي إلا أشهر قليلة حتى عاد التنظيم لتوجيه ضرباته في كلا البلدين، بعد تحوله إلى أسلوب “الولايات الأمنية” وحرب العصابات، وإعلانه بدء مرحلة حرب الاستنزاف كخيار عسكري يتلاءم مع واقع التنظيم الجديد.
عودة التنظيم إلى حالة المنظمة بعد انتهاء مشروعه السياسي كـ “دولة” نتيجة انحيازه عن المدن والأرياف التي كانت خاضعة لسيطرته، دفعته إلى التحول من حالة المركزية الشديدة التي كان ينتهجها قبل عام 2017 إلى حالة من اللامركزية الإدارية والعسكرية، حيث بات عمل المنظمة قائماً على وحدات عسكرية ذات نطاق جغرافي محدد. هذه الوحدات تتمتع بقدرة على العمل بلا الحاجة للعودة إلى القيادة المركزية للتنظيم. دوافع التنظيم من هذا كانت واضحة ولها أهداف أهمها الهدف الأمني، لحماية بقايا قيادته المتوارية عن الأنظار والتي كانت الأطراف المعادية له تبذل جهوداً مضنية للقضاء عليها، والهدف الثاني تسهيل عمل الخلايا وتكثيف العمليات العسكرية للحفاظ على فكرة التنظيم وشعاره في البقاء “باقية”.
التنظيم في هذه المرحلة كشف عن سرعة كبيرة في القدرة على إعادة بناء الهيكلية الخاصة به على أساس حالة المنظمة، وأظهر مرونة شديدة في تحوله إلى اللامركزية، حتى إن مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، لم يدخل التنظيم في حالة تخبط أو فقدان توازن، بل إن ترتيبات تولي أمير محمد سعيد عبد المولى زعامة التنظيم، أكدت تلك القدرات في التحول السريع، إضافة إلى دقة اختيار القائد داخل صفوف المنظمة والذي أثبت أنه لا يقل حنكة عن الزعيم السابق.
عودة “داعش” كمنظمة سرية دفعت القوى المناوئة له للبحث عن آليات لمنع عودته، إذ سارعت إلى استدراك خطأ إعلان هزيمة التنظيم عبر محاولة زيادة الضغط والمتابعة الأمنية والعسكرية لخلاياه في سوريا والعراق، ما دفع التنظيم إلى العمل على تخفيف نشاطه في دائرة مركز التنظيم في سوريا والعراق وبدأ يعتمد على تفعيل فروعه الإقليمية، بهدف تفادي ردات فعل الأطراف المعادية له، ولصرف الأنظار عنه في معقل خلافته السابقة وللسماح لفروعه المنتشرة حول العالم بأخذ المبادرة والعمل، بعدما كانت دائرة المركز تستحوذ على الاهتمام الداخلي في التنظيم وبالنسبة إلى الأطراف المعادية له محلياً وعالمياً.
توجه التنظيم إلى تفعيل الفروع الإقليمية هو استنساخ لتجربة تنظيم “القاعدة” بعد التضييق عليه في أفغانستان، وكانت فروع “داعش” الإقليمية بدأت في تلك المرحلة بالظهور، من فرع سيناء في مصر إلى فروعه في أفغانستان وباكستان والفلبين، لكن فرع التنظيم في أفريقيا الوسطى كان الأبرز بالرغم من كونه أحدث فروع التنظيم من ناحية التأسيس، وبرغم من كونه تشكيلاً جاء من طريق توحد مجموعتين مختلفتين الأولى، من جمهورية موزمبيق والثانية من جمهورية الكونغو، إلا أن هذا الفرع فرض نفسه كأقوى الفروع الإقليمية وتمكن من التغطية على عمل قيادته داخل دول المركز.
بعد تفشي فايروس “كورونا”، تنامت هجمات تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، بسبب استمرار العوامل والظروف الموضوعية التي أدت إلى ولادة التنظيم وصعوده على حالها، وتجذرت تلك العوامل والظروف بعد تفشي الفايروس وتراجع دور التحالف الدولي في محاربة التنظيم، هذه الأسباب مجتمعة جعلت التنظيم يعمل منذ فترة ليست ببعيدة على مشروع مرحلي يعتبر من أولوياته الحالية. مرتكز هذا المشروع إعادة تفعيل المنظمة داخل دول المركز “سوريا، العراق”، تمهيداً لمرحلة لاحقة تعيده كمشروع سياسي “دولة” وليس كمنظمة “متمردة”.
“درج”