دورة التحولات التي يشهدها العالم العربي من المشرق إلى المغرب خلال السنوات الماضية واليوم، أوسع من أن يجري اختزالها في أحداث قد تبدو طيّاً جنائزياً لمرحلة، ومن تلك الأحداث ما جرى في تونس مؤخراً من إيقاف لمسلسل الانهيار الذي قادت إليه أيضاً مسارات ديمقراطية أتاحت لحركة النهضة وغيرها حرية التقدم في الحياة السياسية على النقيض مما كان يجري في الماضي، ثم بات السجال السياسي معرقلاً وعبئاً على الجميع. فهل المشكلة في الديمقراطية؟ أم في ممارسي تلك الديمقراطية بغض النظر عن أحكامنا الأخلاقية عليهم مجتمعين؟
وفي صراع الشرعيات، تبدو أي إجراءات قمعية يمكن أن تُتخَذ من قبل نظام سياسي بحق الحريّات والحياة الديمقراطية، نكوصاً وتقهقراً إلى الوراء. إلا أن الثورة على الاستبداد والفساد بحدّ ذاتها، وحسب المؤمنين بها والمنظّرين لها، هي إكراهٌ من نوع آخر، وانقلاب على حالة للوصول إلى غيرها، وهي تتيح لنفسها ما تراه غير جائز لخصومها بذريعة “الشرعية الثورية”، لأن التفكير في وقف انزلاق الدول والمجتمعات إلى الاضمحلال، وفقاً للفريقين، الثورة ومناوئيها، قد يبدو أكثر أهمية من كل الاعتبارات المرحلية.
ومثال ذلك: ماذا لو توصّل برلمان ديمقراطي إلى قرار “شرعي” معلّل بأسباب موجبة، بعزل رئيس جمهورية منتخب و“شرعي” أو رئيس حكومة مُسمّى و“شرعي”؟ كيف سيُطبَّق هكذا قرار وبأي آلية تنفيذية وبأي مؤسسة من مؤسسات السلطة؟ ولماذا حين تحتدم الصراعات السياسية ضمن نظام سياسي واحد ساهم كل الأطراف في إنشائه يتصوّر البعض أن الآخرين ينقلبون عليه ويتخيل وجود نظام آخر مختلف عمّا قام بصنعه معهم بيديه؟
عاصفة الوعي التي هبّت من تونس قبل عقد من الزمان جلبت معها العديد من التأثيرات، وتلك التأثيرات لا يصحّ النظر إليها على أنها حكرٌ على أولئك الذين مضوا في ركب الانتفاضات العربية، فالآخرون أيضاً يتأثرون ويخوضون تجارب جديدة ستغيّر من وعيهم بكل تأكيد.
التحوّل الديمقراطي لا يجوز أن يضرب صفحاً عن ملفات تتوهج كجمر تحت الرماد، وأولى الحسابات ضرورة تغيير الذهنية البالية التي يعمل وفقها الحزب السياسي الذي لم يغادر عهد التبشير والتكفير خطوة واحدة.
اصطدم دعاة الديمقراطية بخصوم لا يؤمنون بالديمقراطية في بعض البلدان، ونتج عن ذلك صراع حاد قاد إلى التشظي وتفكك المجتمع كما في سوريا واليمن، في مكان آخر كان تناطح الديمقراطيين هذه المرة مع ديمقراطيين مثلهم، يؤمنون بما يؤمن أولئك. ما الحل عندئذ؟ يوجب المشهد إعمال النظر في الظواهر التي تطرح نفسها كحالات حديثة متقدمة وهي في الواقع تعيش في مرحلة ما قبل الحداثة ولا تؤمن بها أصلاً ولا تقبل بوجودها وتطالب باجتثاثها. فكيف يمكن لمثل تلك الذهنيات أن تقود الانتقال الديمقراطي وفق أسس الشراكة؟
لا يدرك الإسلاميون، على سبيل المثال، ومثلهم الكثير من العلمانيين المتشدّدين، أن الشراكة الحقيقية الناجحة لا تكون مع النظراء المتشابهين، بل مع المغايرين المختلفين، وهذا مكمن التحدي في اللعبة الديمقراطية التي ما زالت كما يبدو معقّدة أمام العقل العربي وعصيّة على الهضم. فالقدوم إلى البرلمان بهيئة مدنية، ولكن بذهنية الغزو والفيء والغنيمة لن يصنع شراكة مأمولة، بل سيولّد معركة لا تلبث أن تصير حرباً ضروساً بين متقاسمين لمصير واحد.
هناك حسابات لم تجرِ تصفيتها بعد، والتحوّل الديمقراطي لا يجوز أن يضرب صفحاً عن ملفات تتوهج كجمر تحت الرماد، أولى تلك الحسابات ضرورة تغيير الذهنية البالية التي يعمل وفقها الحزب السياسي الذي لم يغادر عهد التبشير والتكفير خطوة واحدة. ليس بالضرورة أن يكون التكفير دينياً، واتهاماً بالإلحاد والإشراك إلى آخر تلك المفاهيم من القاموس الديني، بل التكفير السياسي الذي يعني أن الآخر مادام ليس منا فهو علينا وهو خطر داهم تجب مكافحته والتخلص منه.
بمقابل ذلك تبرز مشكلة الحُكم وضروراته، واستيعاب مسؤولية صيانة كيان قائم، والحفاظ على دوره الجيوسياسي الذي هو أبعد بكثير من قصة الإرهاب ومحاربة الإرهاب والفوضى الداخلية، ولا يستقيم ذلك بإدارة لعبة تداول الكراسي ومراقبتها وحسب. وهناك ما هو أكثر إلحاحاً من التفكير في من حكم ومن سيحكم، نحو الدور التاريخي الذي تقوم به هذه الدولة أو تلك، ومتى يبدأ خطر الانحسار الذي سيعني الانكفاء والتقوقع وزوال التأثير.
عاصفة الوعي التي هبّت من تونس قبل عقد من الزمان جلبت معها العديد من التأثيرات وتلك التأثيرات لا يصحّ النظر إليها على أنها حكرٌ على أولئك الذين مضوا في ركب الانتفاضات العربية
أكثر من دولة في المنطقة تبدو كأمثلة ساطعة لا يمكن لها أن تبقى نائية عن الإقليم العربي منشغلة بصراع جرى تصويره على أنه نسخة مكرّرة عن صراع الجيش والإسلام السياسي، وقد ساهم مفكرون كثر في هذا دون أن يوقفهم أحد في تسطيح المشكلة واختصارها بالجيش والإخوان، وهي أوسع بكثير من ذلك تضرب في عمق المجتمع وتصل إلى حدود السؤال: ما الذي يريده الإسلام السياسي من الحُكم؟ وقد رأينا نموذجه في غزّة التي سرعان ما لحقت حركة حماس التي تحكمها بالمحور الإيراني وباتت ميليشيا متحالفة مع حزب الله اللبناني تسبّح بحمد المرشد خامنئي وتمجّد مجرم الحرب قاسم سليماني.
ولا يستوي المنطق إن لم نعرف من جهة أخرى، ما الذي يريده الجيش بدوره من الحُكم؟ بعد أن برهنت التجربة العربية على أن أنظمة عسكرية مثل نظام جمال عبدالناصر ومعمر القذافي وحافظ الأسد قادت البلاد العربية إلى الخراب الاقتصادي والمجتمعي وقلّصت مؤشرات التنمية واستهلكت الاحتياطيات وفتتت الدول. والسؤال الذي يجب أن يبقى مطروحاً من جانب آخر؛ ألا يمكن أن يتغيّر ذلك المنهج الذي يفكّر فيه الجيش؟ وهل بقي فعلاً كما كان ماكينةً لإنتاج المستبدين عشاق عبادة الذات، وتونس سبق لها وأن قدّمت الإجابة؟ أم أن هذا كله مع سابقه جملةٌ من التفاعلات ستوصل إلى نتائج حتمية تدفعها الضرورة تخلق الشراكة من جديد بين أطياف المجتمع ولو بعد حين؟
ولناظرٍ بتمعّن سيبدو كل ما حدث ويحدث اليوم مجرّد طورٍ سيقود إلى أطوار تالية من تحولات الفكر يعيد بها تكوين ذاته، سواء لدى رافعي شعارات الإسلام السياسي، أو لدى أولئك الذين لا يرون للحياة المدنية الحرّة مكاناً في ظل وجود مثل تلك الشعارات، أو حتى لدى غيرهم من المتشبثين بالنظام القديم الذي لن يرجع، لأنه لم يعد من سكان العصر وأدواته، مثله مثل “حاكمية المتغلّب” العقدة التي لم يتخلّص منها لا الإسلام السياسي ولا بعض خصومه، لا بديمقراطية ولا بدستور ولا بسواهما.