سياسة ” خطوة خطوة ” اقترنت بكيسنجر-وزير خارجية أمريكا الأسبق بعد حرب تشرين1973، إذ تمكّن من إجهاض ما حُقّق عسكرياً، بدأ باتفاقات فضّ الاشتباك، عبر جولات مكوكية بين الأطراف، وانتهى بمفاوضات سياسية، بدأت بالهدنة ومفاوضات الـ”كم 101″ على الطرف المصري، والهدنة ونشر قوات الطوارئ على الطرف السوري، وكذلك الأردن ولبنان، وأوصلت تداعياتها المنطقة إلى ما هي عليه اليوم، إن مباشرة أو غير مباشرة، بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ووادي عربة، ثم أوسلو.
ذات التكتيك، مع التعديل بما يناسب الوضع السوري والمتداخلين فيه، استخدمه الروس بعد تدخّلهم العسكري إلى جانب النظام، فكان مؤتمر أستانا، بمشاركة تركيا وإيران والنظام والمعارضة، بهدف حفر مسار بديل/موازٍ لجنيف، فصار مدخلهم تمرير ما سمّي اتفاقات “خفض التصعيد”، التي ابتلعها الروس، وبقيت الأخيرة حتى الآن في الشمال الغربي، وأخذوا يعملون لتجيير هذه المكاسب العسكرية إلى مكاسب سياسية يستثمرون فيها، بمحاولة تعويم النظام وشرعنته عبر مهزلة انتخابية صورية، ومحاولات للتطبيع العربي معه، فعرقلهم “قانون قيصر” الأمريكي، حتى مجيء إدارة بايدن التي لمّا تقرّر بعد إستراتيجية أو سياسة واضحة تجاه سورية، إلى أن كان القرار الأممي بتمديد العمل لقرار المساعدات الإنسانية عبر باب الهوى، بعد قمة بايدن وبوتين في جنيف، والتي أثمرت لجنة تنسيق أمريكية روسية (ماكغورك وفريشنين ولافرنتييف)، اعتمدت رسم الخطوة ومقابلها، وبعد مساومات أخذت بالاعتبار الشروط الروسية بفتح معابر بينيّة وتنشيط مشاريع التعافي المبكّر، جعلتها أمريكا اختباراً للتنسيق مع روسيا، وإمكانية دفعها النظام للانصياع للعملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن2254.
ويبدو أن استحقاق الخطوة التالية على قدر من الأهمية، دفع بوتين لإحضار زعيم العصابة الأسدية موجوداً، بلا بروتوكولات أو رمزيّات الحدّ الأدنى للسيادة، وهذا الشحن المُذِلّ، أُريد منه توجيه رسائل للقوى المتصارعة في سورية، أولها للنظام، يستدعي الجدية في التعامل السياسي مع المتغيّرات ومتطلّباتها، وليس آخرها لطهران، يبلغها بتغيّر الموازين، واستحالة استمرار الوضع ريثما تصفّي حسابات ملفّها النووي وقضاياها الإقليمية، وكذلك تركيا التي ترى في عصابة دمشق خطراً على سورية، فتوعّدت أعداءها حمايةً لأمنها القومي ومصالحها، ردّاً على احتضان أمريكا ودعمها لقسد، ووعدت على وقع التصعيد العسكري في الشمال الغربي بتطوير وتعميق علاقاتها مع موسكو، أمّا إسرائيل فلن تحيد عن إخراج إيران من سورية وحماية أمنها. فالاستدعاء تمّ بعد حركة سياسية نشطة، ومبادرات شجّعها التنسيق الأمريكي الروسي للإعلان عن نفسها، وبعد زيارة “لابيد” وزير الخارجية الإسرائيلي بأسبوع، وحسم ملفّ درعا، وجولة ملك الأردن الأمريكية الروسية ومبادرته لحلّ “الأزمة السورية”، وتشجيع الأمريكان لمشروعي الغاز والكهرباء عبر سورية، وزيارة الوفد الوزاري اللبناني دمشق، والاجتماع الرباعي في عمّان، وبعد زيارة غريفيث مندوب الأمين العام للأمم المتحدة لدمشق، ثم قبول النظام زيارة بيدرسون وتحديد موعد الجولة السادسة للجنة الدستورية، وبعد دخول قافلة المساعدات الإنسانية عبر خطوط النظام إلى باب الهوى، وبعد مناورات لم تنقطع لكثير من الأنظمة العربية تطبيعاً لعلاقاتها مع النظام، ولكنها –الزيارة/الإحضار- كانت قبل يوم من اجتماع جنيف بين الروس والأمريكان، وقبل أيام من لقاء بوتن-أردوغان، وطروحات لاستئناف التنسيق الأمني الأمريكي الروسي الإسرائيلي، وأيام من الذكرى السادسة للتدخّل الروسي، والأهمّ بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتقليصه في العراق.
لقد نجح كيسنجر عبر خطواته بتغيير وضع المنطقة سياسياً، أمّا الروس فنجحوا عسكرياً، لكنهم عجزوا عن تثميره السياسي، فتوسّموا في سياسة “خطوة مقابل خطوة” المطروحة أمريكياً ضالّتهم، وارتضوا بدور الوسيط “القوّاد” خلاصاً من عبء بات يستنزفهم بلا أفق يشي بنهاية يرغبونها، بعد وصولهم غايتهم في الاستقرار على سواحل المتوسط، واستعادة هيبة مفقودة، والترويج لسلاح مجرّب ميدانياً، والبحث عن دور يعيد أمجاداً غابرة.
سياسة “خطوة مقابل خطوة” ترجمة لسنوات الدم والدمار، ومآلات مناطق النفوذ وسيطرة قوى الأمر الواقع، والتوافقات الآنية والاصطفافات المتغيّرة بعد أن تواطأ العالم ضد ثورة شعب أراد الحرية والكرامة، فضاعت الفرصة لتضارب مصالح القوى المتدخّلة، وفقَدَ السوريون زمام أمرهم، وتاهت أشرعة خلاصهم.
إن ما يُدعى مناورة يقوم بها رأس النظام، عبر انخراطه مرغماً في سياق هذه السياسة، رقصاً على حبائل تناقضات وتوافقات المتصارعين، و تكتيكاً بتوظيف المتغيّرات الجيوسياسية، ما هي إلا “نطوطة” مكشوفة لأمير حرب كيماوي قاتل، اقترف جرائم ضد الإنسانية، وباع سورية بالجملة والمفرّق حفاظاً على سلطة مورثة، وهو يعي أن أي خطوة باتجاه تنفيذ القرار 2254 تقرّب أجلَه، ولن تجدي في لعبة الأمم، فروسيا أو إيران أو إسرائيل ستقدمه ثمناً لمصالحها، كما حافظت عليه خدمة لمصالحها، فتكون الحركة الأخيرة في اللعبة، وبدونها ستكون نصف خطوة، وهنا تنتقل الرقصة على إيقاع ” الواحدة مقابل النصف”، وهو ما لا يمكن لأحد تحمّل أعبائه، ولا ضامن ألّا يصحو “قيصر” من غفلته.
رئيس التحرير