زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان للسعودية والإمارات ومصر لم تبدّد الغموض السائد في خيارات إدارة جو بايدن واستراتيجيتها بالنسبة الى المنطقة العربية. لم تعد العواصم المعنية تتوقع من واشنطن سوى الأسوأ، والواقع أنها لم تكن تنتظره لتبحث في الخيارات المتاحة، بل بدأت تفكر وتعمل على هذا الأساس، حتى في أيام ما كان يبدو “شهر عسل” مع إدارة دونالد ترامب. أي خيارات أخرى لا بدّ من أن تكون الصين أولها، تليها روسيا، وهما لا تشكّلان بدائل حقيقية من الولايات المتحدة، لكن ما العمل إذا كانت أميركا قد قرّرت أن المنطقة العربية أصبحت “ثانوية” بالنسبة إليها. ومع أنها أنزلتها الى هذه الدرجة وتواصل الانسحاب منها وتعرّض أمنها لمخاطر، فإن أميركا تتوقع منها أن تكون دولاً مساندة لها في مواجهتها مع الصين، متجاهلة حجم المصالح والمشاريع الاستراتيجية التي باتت تربط معظم الدول العربية، لا سيما الخليجية، بالصين، بل إن إسرائيل الحليفة الأولى والوحيدة لأميركا، ليست مستعدة للتخلّي عن مصالح مهمّة أقامتها مع الصين.
عدا أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان أهدى انتصاراً لحركة متطرّفة مثل “طالبان”، واتّسم بكثير من عوامل الهزيمة التي لم يعد حتى البنتاغون ينكرها، وعدا أن الانسحاب من المنطقة يخلّف وراءه العديد من النزاعات الساخنة مع اعتراف علني بعجز زائف عن إقناع متطرّفي إسرائيل بأي سلام يحترم حقوق الشعب الفلسطيني، أو اعتراف ضمني بـ”هزيمة” أخرى أمام التطرّف الإيراني، فإن أميركا فقدت الميزة التي كانت ولا تزال تدّعيها لنفسها، وهي أنها صانعة الاستقرار وضمانه. بل إنها في صدد خسارة سلاح العقوبات الذي استنبطته كبديل من الحروب، وهو كبّد أعداءها وخصومها الكثير من الخسائر لكنه لم يثبت قدرته على حسم أي نزاع، ولم تكن له فاعلية ضد عصابات وميليشيات استولت على دول. حتى لو لم تكن الهزائم عسكرية بحتة، فإن نتائجها ستجيز القول، للتاريخ، إن “طالبان” أخرجت الأميركيين من أفغانستان، وإن ميليشيات إيران تخرجهم من المنطقة العربية.
في بازار الخيارات الأخرى، أعادت روسيا طرح “مبادرة” قديمة معدّلة لأمن الخليج، فيما برز مجدّداً خيار الحوار مع إيران. في الحالين يُراد تجاوز الوضع الراهن للتوسّع الإيراني كأنه أمر واقع يمكن بناء العلاقات المستقبلية عليه. فالأفكار الروسية تصلح لتثبيت حال سلام يُفترض أنه قائمٌ ويحتاج الى “قوننة” و”آليات عمل” لتطويره، لكن مَن يصنع هذا السلام ومَن يقنع إيران بأن عقيدتها الخاصة و”تصدير الثورة” ومشاريع “الإمبراطورية” وتوزيع الصواريخ والطائرات المسيّرة على العصابات والميليشيات لا يمكن أن تساهم في أي سلام؟ سبق لدول الخليج أن اقترحت أكثر من مرّة أسساً للحوار مع إيران ولم تستجب الأخيرة لأي مبادرة من “مجلس التعاون”، وفضّلت دائماً إقامة تفاهمات جزئية ومتفرّقة من هذه الدولة وتلك، فيما واظبت على إطلاق دعوات الى الحوار مع دول الجوار، وكانت تقصد السعودية تحديداً لضمّها الى هذا النمط من التفاهمات.
لكن الحوار بدأ في بغداد، بسعيٍ من رئيس الوزراء العراقي وقبول من الدولتين، وبلغ جولته الرابعة من دون أي نتائج معلنة. أخذت الرياض في الاعتبار المتغيّرات الإقليمية والأميركية، والجهد الذي يبذله مصطفى الكاظمي لإبعاد الصراعات عن العراق، كذلك ضرورة أن يؤدي أي حوار الى ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الخليج. لكن مكانة السعودية لا تسمح لها بأن تفاوض على أمنها ومصالحها فحسب، بل إن لديها مسؤوليات والتزامات تجاه العالمين العربي والإسلامي لا تجيز لها حتى “تقاسم المصالح” مع دولة مثل إيران، تنتهك سيادة أربع دول عربية وساهمت في تخريبها، وفرضت واقعاً يستحيل معه أي أمن أو استقرار. يُضاف الى ذلك، أن ثمّة تداخلات دولية في مختلف أزمات المنطقة، ولا يرتبط حلّها بتوافق سعودي – إيراني حصرياً، حتى لو كانت أميركا المنسحبة تحبذه وتأمل توظيفه لإغراء إيران واجتذابها.
لا شك بأن إيران تدرك كل ذلك، لكنها موقنة بأن التوافق مع السعودية ممر إلزامي لتوطيد النفوذ الذي حصّلته. واقعياً لا يمكن أي توافق كهذا أن يُفضي الى اعتراف بهذا “النفوذ”، أو أن يتحقّق من دون تنازلات إيرانية أو إثبات طهران أنها في صدد مراجعة كاملة لسياساتها التوسّعية، وهذا ما لا يبدو في أفق حكم “الحرس الثوري” عبر إبراهيم رئيسي. فإيران ذهبت بعيداً في عدم احترام سيادة الدول واختراق مؤسساتها وجيوشها، كما في استخدامها كل أنواع الإرهاب والجريمة المنظمة، حتى أصبحت “دولة احتلال” في نظر السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين. ليست للسعودية تدخّلات عسكرية أو ميليشيوية في إيران أو أي دولة أخرى، وبالتالي فليس لديها ما يفترض أن تتنازل عنه، ولا تعتبر أن من شأنها مثلاً التفاوض مع إيران أو غيرها على “تقاسم النفوذ” في سوريا أو العراق ولبنان واليمن، أو حتى على تقسيم أيّ من هذه الدول وغيرها.
طبعاً، اليمن استثناء، وما حتّم الحرب فيه أمران واضحان ومتلازمان ولا يمكن قبولهما: انقلاب الحوثيين على الحكومة الشرعية، وتشكيل حال عدوانية مباشرة على السعودية وأمنها. فالحوثيون ليسوا جيشاً وطنياً انقلب على حكومته، بل هم ميليشيا إيرانية، وليسوا مؤهّلين لإقامة أي حكم مستقرّ في اليمن ولن يكونوا كذلك، مهما بالغوا في إفقار الشعب واستغلال العلاقات القبلية الدائمة التقلّب، وبالتأكيد لا يمكنهم أن يديموا سيطرتهم إلا بوجود إيراني مباشر على أرض اليمن. في الأساس كان انقلابهم جزءاً من خطة إيرانية لاستهداف السعودية وسائر دول الخليج، ولا تزال الخطّة قيد التنفيذ. فعلى رغم “الأهمية” التي توليها طهران للحوار مع السعودية، إلا أنها لم تجز للحوثيين التعاطي بإيجابية مع المبادرة السعودية (المدعومة أميركياً وأممياً) لإنهاء الحرب والبدء بمفاوضات على الحل السياسي. وعلى رغم التنازلات التي مُنحت للحوثيين، فإن طهران حدّدت الاستيلاء على مأرب شرطاً للبحث في أي مبادرة، أو حتى للعودة الى المفاوضات النووية. ويبدو مع زيارة سوليفان أن الجانب الأميركي لم يعد متشدّداً في منع سقوط مأرب، فهو يريد بأي ثمن إعادة إيران الى الاتفاق النووي، حتى لو سلّم اليمن الى الحوثيين كما سلّم أفغانستان الى “طالبان”.
“النهار العربي”