بعد إعلانها بدء انسحاب قواتها من أفغانستان، انفرط عِقد استمرتّ أمريكا ببنائه عَقدين من السنين، كلّفهم 3 ترليون دولار وآلاف القتلى والجرحى، وزحفت طالبان صوب “كابول”، وهرب الرئيس أشرف غني، نقلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل مشاهد لحشود من الأفغان تتّجه صوب مطار كابول، لتنتقل الكاميرات مظهرة تعلّق كُثر بعجلات طائرة ضخمة امتلأت عن آخرها، تستعدّ للإقلاع، فتحلّق عالياً، ويأتي مشهد الرعب لسقوط من لم يكن محظوظاً، أن يكون داخلها، في طيران حرّ من شاهق، لا يعرف أين يستقرّ به المقام. عنى ذلك للمحلّلين والإستراتيجيين في كل مكان، أن من تتخلّى عنه واشنطن، عليه أن يصعد، ولو بعجلة تدور في الفراغ، لاحقاً بها. فقد سبق وتركت مَن سبقه ” في فيتنام وغيرها…” وجبة لأعدائها ومناهضي وجودها.
الانكفاء، إستراتيجية أمريكا في هذه المرحلة من الصراع الدولي وحساباته الجيوإستراتيجية، إذ انتقل شرقنا إلى درجة متأخرة في سلم أولوياتها، ففي العراق حدّد الأمريكان وجودهم وهوية بقائهم، وفي الخليج سحبوا جزءاً من حماياتهم لأصدقائهم، ولأن الحدث بالحدث يُذكَر، بدأ الأتباع وحاملو لواء أمريكا في أماكن تواجدها في سورية بتلمّس رؤوسهم، متحسّبين لما ستؤول إليه مصائرهم، فيما لو غادرهم مموّلهم وولي أمرهم، فجأة أو بالاتفاق، ضاربين أخماسهم بأسداسهم، مردّدين ما تداوله السوريون “جاك الدور…”.
وهو ما حدا بمسد ذراع قسد-أو العكس- التي يقودها كوادر قنديل المصنّفة في قوائم الإرهاب للقلق واستقصاء ما سيحلّ بهم بعد الرحيل، وهم حصّة أمريكا في سورية والمحضيّون برعايتها، ولم تقصّر إدارتا بايدن الآن، وترمب قبلاً، في نصحهم وتوجيههم، والدفع بهم إلى حوار كردي كردي، وكردي سوري، وغضّت الطرف عن تحرّكاتهم وحواراتهم مع النظام حيناً ومع الروس أحياناً، وتجاوزهم لقانون قيصر” تهريب النفط والحبوب”، وكذلك فعل أصدقاؤهم الروس والأوروبيون..
حاول أصدقاؤهم “كينَنَتهم”-جعلهم كياناً سياسياً- ضمن المنصّات التي تعقد للحلّ السوري، فرفضهم الكُرد قبل باقي السوريين، لارتباطهم بحزب العمال الكردستاني أولاً، وبتحالفهم مع النظام- وهم صنيعته أساساً- ثانياً، وفساد إدارتهم وفشلها أخيراً. ولكثرة شكوكهم بفحش ما فعلوا، وقلقهم ممّا سيحلّ بهم، تراهم دراويش، يدورون ويضربون الأرض شرقاً وغرباً، وحالهم يترجمه: كاد المُريب أن يقول استأجروني.. وإلّا فأعيلوني! وهو ملخّص ما فعله قادة PKK “السوريون” في جولتهم الأمريكية لحشد الدعم والاطمئنان على مستقبل مشروعهم، علماً أن بايدن وعدهم أنه لن يتخلّى عنهم، لكن “مسد” لا تريد فهم مسوّغات ما فعل في أفغانستان! إذ نوّه أن صناعة الأمم ليست مهمّته، وتغيير الأنظمة ليس في عرفه، وقسد تعلم يقيناً أن أمريكا ليست داعماً للأبد، ولابدّ من ملء فراغ خروجها، فأين المفرّ؟
قبل أمريكا كانت وجهتهم فرنسا-حيث تتواجد قوات أوروبية في الجزيرة- وتمّت طمأنة قلقهم، وقبلها-ودائماً- منحتهم روسيا فرصة كينونة سياسية أكبر من واقعهم، وأجرت حوارات بينهم وبين النظام، وهم الآن يتمظهرون بلبوس المشروع الوطني في دعوتهم للحوار السوري ومطالبتهم باللامركزية! بل يسترسلون مبرزين استعدادهم للحوار مع دول الجوار! وتناسوا أن مَن لا يمكنه الحوار مع الكردي الآخر، فلا يمكنه الحوار مع العربي والآثوري والتركماني، ومَن يريد فرض شكل للإدارة منفرداً، يؤمّن مصالحه، فلا يُركن له.
يبدو أن قسد لمّا تدرك أن لأمريكا مصالحها السياسية والإستراتيجية في سورية، فهي في مواجهة ومقايضة مع روسيا وانفرادها، وعرقلة لتنفيذ مشروع هلال إيران الخصيب وتغوّلها، وكبح مطامح ومطامع تركيا، ولا نغفل تعهّدها بأمن إسرائيل، والتزامها تنفيذ القرار الدولي2254، وألّا تكون القراءة الروسية نهاية مطاف لسنوات من المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
لقد أضحت ورقتهم للمساومة بين القوى الدولية، ولهم تاريخ صلاحية للاستخدام، ولن يكونوا في ظلّ الأوضاع السورية الراهنة غير بندقية مُستأجرة، أو دور وظيفي قذر، أو يعودوا إلى معيلهم الأول، يقايض بهم أو يوظّف تدويرهم مقابل استمرار بقائه، أو يعودوا إلى كهوف قنديل. وربما يسلكون سلوكه، ليس في الفساد والنهب والقتل والاعتقال والتهجير وحسب، بل يبتزّون العالم، كما فعل، بـعشرات آلاف الدواعش لديهم، ليكون الخيار: إمّا نحن أمراً واقعاً، وإمّا الإرهاب!
- كاتب سوري