أظهر الإعلان عن اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب حسًّا عربيًّا عارمًا بالتقصير، دفع الكثيرين لإعلان الاستنكار الشديد لتقاعس دور النشر والمترجمين العرب بسبب عدم وجود كتاب واحد للفائز بلغة الضاد، ورأى البعض في ذلك عارًا وجهلا وقلة معرفة وعزلة ونكوصًا ثقافيًّا.
طبعًا من حقّ القارئ العربي أن يطلع على كل تجارب الكتاب الرائعين في العالم، ومن حقّ الثقافة أن تكون ابنة حاضرها وجديد هذا الحاضر من مشارق الشمس إلى مغاربها، لكن هذه الفورة الرهيبة التي أصابت أمة راحت تلعن نفسها أمرٌ ما كان يجب أن يكون على هذه الدرجة من العنف، فالكتّاب العظماء الرائعون موجودون في كل أنحاء العالم، بعضهم سمعنا به وبعضهم لم نسمع، وأجزم أن ليست هناك دولة على وجه الأرض، كبيرة أو صغيرة، استطاعت أن تترجم أعمال الكتاب الرائعين كلهم، وفي الحقيقة لن تستطيع، لأن دولة ما أو لغة ما مهما كان وزنها الثقافي لن تتسع مطابعها ولا مكتباتها ولا نبالة مترجميها لاستيعاب هذا الكم الهائل من الجمال.
وبقدر ما في الغضبة العربية من غيرة، إلا أنها مطاردة بحسّ عميق من جلد الذات الذي لا مبرر له، ولا أخال أن أمّة أو لغة في العالم كان سيصرخ مثقفوها لو فاز كاتب عربي هذا العام بنوبل (وإن اعتبر البعض فائز العام يمنيًّا): لماذا لم نكن نعرفه؟! ولما اتّهموا أنفسهم بكل ما اتّهمنا به أنفسنا، نحن الذين حين نضرب أمثالًا تعليقًا على جائزة نوبل لهذا العام بذكرنا أسماء في العالم تستحق الجائزة العالمية هذه، لا نورد اسم أي كاتب عربي في معظم القوائم التي وردت في مقالات حُبِّرتْ من الخليج إلى المحيط.
نحن نُقصي أنفسنا ههنا مرتين، مرة نقصيها عن المعرفة، ونصفها بالجهل، لأنها لم تعرف كتابات عبد الرزاق، ومرة نقصيها عن حقها في أن تكون كتابتها جزءًا من المشهد العالمي، وكان يمكن أن يكون هناك حديث طويل عن جهل العالم بالكتابة العربية وجهل جائزة نوبل بالكتابة العربية، وإصرار دور النشر العالمية على إقصائها من برامج نشرها.
في الشهور الماضية، كان ثمة أكثر من فرصة ليطل المرء على «قرارات» لدور نشر أجنبية بشأن العزوف عن الاقتراب من الكتاب العربي، وهذا انعكس على الوكلاء الأدبيين بصورة واسعة، ولذا يمكن أن تسمع وكلاء أدبيين كثراً يقولون: «نحن نبذل عشرة أضعاف الجهد الطبيعي الذي نبذله من أجل إقناع الناشر بكتاب عربي، مقارنة بالجهد الذي نبذله لأي كاتب آخر من العالم، وإذا كان الكِتابُ فلسطينيًّا فإن علينا أن نبذل عشرين ضعفًا، والنتيجة غالبًا مخيبة للآمال، إلا في ما ندر، وإذا نجحنا يكون ذلك مع دور نشر صغيرة».
وإذا كنا نريد أن نكون أوضح، وما زلت أتحدث عن جَلْد الذات «هنا»، وتطهيرها بتقديس كل ما هو «هناك»، فإن خيرة كتابنا وأروعهم ظلوا خارج الفرصة التي تدفع «الهناك» لجلد نفسه لأنهم لم يفوزوا.
من حق الثقافة العربية أن تملك من يدافع عنها ويتساءل: كيف يمكن لكاتب عربي اليوم، باستثناء من يكتبون باللغات الغربية، أن يصل إلى أي جائزة أو مرتبة عالمية، ما دام الكتاب العربي خارج حلبة الثقافة والمنافسة؟ كيف يمكن لأي ناقد أو مؤسسة تعليمية أن ترشح كتّابًا لا وجود حقيقيًا لهم في سوق النشر الأجنبية؟!
طبعًا، هناك من يتفنّنون في احتقار الثقافة العربية، وأذكر أن صحافيًا غليظ القلب والروح، يعيش منذ سنوات في دولة أوروبية متحضرة! جلس في إحدى الندوات ليقول بصفاقة بالغة وهو يتحدث عن الرواية العربية: «طبعًا لا يمكننا أن نقارن المستوى الرائع للروايات التي تفوز بالجوائز في الغرب بالروايات العربية أيًّا كان نجاحها!
ذلك الصحافي في الحقيقية، المغترب، لم يكن يدري في تلك اللحظة أنه يشتم الثقافة العربية كلها، ما دام يشتم بعض أجملها، ويدافع في الوقت نفسه عن مستوى كل عمل غربي لمجرد أنه فاز بجائزة، ونحن نعرف أن عددًا كبيرًا من الكتاب (العالميين) الذين فازوا بأكبر جوائز الغرب «نوبل» انتهوا بعد عام واحد من الضجة التي أعقبت يوم فوزهم، وما ينطبق على نوبل ينطبق على أفلام الأوسكار وغيرها.
هذه العبادة المتمثلة في هجاء الذات ومديح كل ما هو خارجها، للظهور بمظهر الإنسان الموضوعي العارف! لا ينقص صاحبها، حين يكتب عن نوبل هذا العام، إلا أن يخشى حرمانه من دخول الجنة بسبب جهل أمته بكاتب ما. أمر مرعب؛ فلا أحد في العالم يعرف كل شيء، لا الكتب ولا الأفلام ولا اللوحات ولا المسرحيات، وكل معروف عرفناه لا ينفي أن يكون هناك ما هو أهم منه لم يزل مجهولًا لسبب ما.
قبل أيام كانت قارئة نجيبة تكتب عن رواية عربية: «ونستطيع أن نلمح أثر رواية «كافكا على الشاطئ» لهاروكي موركامي في هذه الرواية»، مع أن الرواية العربية التي تتحدث عنها منشورة قبل ست سنوات من رواية موركامي! ولا ينجو من ذلك إلا قلة من النقاد العرب الذين يتفننون في جعل كل رواية عربية تابعة لرواية أخرى غربية أو أكثر، في حين أن الرواية العربية نفسها حين تنشر بلغة أجنبية لا يقوم الناقد الأجنبي أو طالب الدكتوراه بالحديث عنها كرواية تابعة، بل كرواية تقدم للرواية العالمية الكثير. ولماذا يصرّ ناقد عربي بتأثر رواية عربية برواية لساراماغو، مع أن العربية منشورة قبل رواية ساراماغو بربع قرن؟! ولماذا لا يجهر آخر بأن «عرس الزين» لا تقل جمالا عن كثير من روايات ماركيز، وأن «فساد الأمكنة» المنشورة في نهاية الستينيات أروع من مئات الروايات المترجمة للعربية قديمًا وحديثًا؟! ولكيلا يبقى الأمر محصورًا في الكتب، أضيف: وينبهر مشاهد عربي بمسلسل كوري جديد، وفكرته المبدعة الطازجة، مع أن رواية عربية قامت على هذه الفكرة من ألفها إلى يائها صدرت قبل ثلاثة وعشرين عامًا من تفضّل نتفليكس علينا بإنتاج هذه المسلسل، في حين أن عمى المنتج العربي وخوفه من أي جديد منعه من الالتفات إلى هذه الرواية، بل إن كاتبها أسرّ لي أن منتجًا عربيًا يتعامل مع نتفليكس عُرضت عليه الرواية قبل ثلاث سنوات لكنه لم يتخيل أن قصة كهذه يمكن أن تقبلها نتفليكس!
وبعد: كان من الجيد لو عرفنا الفائز بنوبل قبل فوزه، لكن عدم معرفتنا بمبدع ما، قد لا يكون معروفًا في بلده أيضًا، ومبدعين كثر فازوا بالجوائز لا يعرفهم تسعة وتسعون في المائة من سكان العالم، وهذه نسبة غير مبالغ فيها، لا يقتضي إهانة الذات على هذا النحو! لقد جاء الوقت لنعرفهم.. وسنعرفهم.
“القدس العربي”