رمزي بارود* – (كاونتربنش) 20/10/2021
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
عندما يكتب المؤلفون بلغتهم الأم، فإن جمهورهم المستهدف يكون أبناء شعوبهم. وتنسجم كتاباتهم مع مظالم الناس وأولوياتهم؛ وتتحدث عن تطلعاتهم، وتكون كلمات هؤلاء الكُتاب متجذرة في التاريخ الجماعي لبلدانهم. ولسوء الحظ أنها ليس ثمة علاقة لهذا كله بأكاديمية مقرها ستوكهولم، والتي تم إنشاؤها قبل عقود من النهاية الرسمية للاستعمار الغربي في إفريقيا
- * *
لا شك في أن فوز الروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح بجائزة نوبل في الأدب للعام 2021 يشكل أخباراً مرحباً بها، خاصة وأن الأكاديمية السويدية معروفة تاريخيًا بالنقض في التنويع، وكأن الإبداع الفكري مقتصر إلى حد كبير على الدوائر الفكرية الغربية.
لكنّ من السابق لأوانه اقتراح أن الأكاديمية قررت أخيرًا الانفصال عن ماضيها المتمركز حول العرق، وأن تتبنى بصدق الأدب الرائع الذي ينشأ دائماً من الجنوب العالمي. ويمكن أن يُعذر المرء على شدة تشاؤمه -ففي النهاية، منذ إنشائها في العام 1901، كان أكثر من 80 في المائة ممن حصلوا على الجائزة ينحدرون من أوروبا وأميركا الشمالية. وفي العقد الماضي، كان الروائي الصيني، مو يان، هو المؤلف الوحيد غير الغربي الذي حصل على الجائزة في العام 2012.
ويثير هذا الواقع عدداً من الاحتمالات القاتمة:
أولاً، لا تعتقد الأكاديمية أن الجنوب العالمي يقدم مساهمات فكرية وأدبية حقيقية للثقافة والأدب العالميين، وتعتقد أن المؤلفين الغربيين فقط هم القادرون على إنتاج الأدب الذي يمكن ربطه بالحياة ويتحدث حقًا عن الحالة الإنسانية.
ثانيًا، لم تبذل الأكاديمية وقضاتها العناية الواجبة من أجل الكشف عن التألق الأدبي الذي يمكن العثور عليه في كل دولة في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية.
ثالثًا، إن الجائزة سياسية بشكل أساسي، وهي تُحجب عن المؤلفين والكتاب الذين يحاولون تصحيح الروايات الاستعمارية الخادعة، ويدفعون نحو إنهاء الاستعمار الراديكالي -في السياسة والثقافة والأدب واللغة- ولا يلتزمون بالنسخة المخففة مما بعد الكولنيالية، كما تدافع عنها وتعلي من شأنها المؤسسات الأكاديمية الغربية اليوم.
من المؤكد أن قرنح هو الأكثر استحقاقا للجائزة. ومع ذلك، فإن ما يهم حقًا ليس أن مؤلفًا من أصل أفريقي فاز أخيرًا بالجائزة بعد إهمال الأكاديمية لأفريقيا لما يقرب من خمسة عشر عامًا. كانت آخر روائية أفريقية حصلت على الجائزة هي كاتبة بيضاء بريطانية-زيمبابوية، دوريس ليسينغ (ولدت لأبوين بريطانيين في إيران)، في العام 2007. إن ما يهم هو أننا -الأكاديميين الغربيين والجمهور، على وجه الخصوص- ننخرط حقًا مع كتابات هؤلاء المفكرين العظام.
إذا كانت مثل هذه الجوائز تخدم فقط كإيماءة بسيطة واعتراف رمزي بالكيفية التي أدى بها الاستعمار الغربي في إفريقيا -وفي جميع أنحاء الجنوب العالمي- إلى إلحاق ضرر يتعذر إصلاحه بالمجتمعات الممزقة والفقيرة والمستعمَرة، فإن هذه البادرة ستكون جوفاء عاطلة من المعنى. لكي يكون هناك مغزى لكتاب ما بعد الكولنيالية، الذين يلتزمون بما كان ينبغي أن يظل شكلاً جذريًا من مناهضة الاستعمار، فإنهم يجب أن يصبحوا قلب وروح الحركة الأدبية، ليس في الجنوب العالمي فحسب، وإنما في جميع أنحاء العالم.
ولا يهم أن المؤلف الكيني الشهير والروائي والشاعر والكاتب المسرحي، نغوغي وا ثيونغو Ngũgĩ wa Thiong’o لم يفز بجائزة نوبل في الأدب بعد. إن الرجل الذي تحدى النظرة العالمية السائد في اللغة والأدب في كتابه المعلمي، “إنهاء استعمار العقل: سياسة اللغة في الأدب الأفريقي” Decolonizing the Mind: The Politics of Language in African Literature، هو تجلٍّ -ليس للعبقرية الأدبية في إفريقيا فحسب، وإنما للمفكر العضوي الحقيقي أيضاً. وقد تم سجن ثيونغو ذات مرة في كينيا ما بعد الاستعمار بسبب كتابته مسرحية بلغته الأم “الكيكويو” Gĩkũy، وليس باللغة الإنجليزية.
كتب ثيونغو في كتابه المؤثر: “لقد أعطى التقليد الفكري الأسود الكثير لبقية العالم، لكن هذا غالبًا ما يكون غير مرئي”. والسبب وراء إخفاء “التقليد الفكري الأسود” -من بين أمور أخرى- هو أن السود يكتبون بلغات غير اللغات الأوروبية السائدة.
ومع ذلك، لا يتعلق الأمر باللغة فقط، وإنما بما تنقله اللغة نفسها. عندما يكتب المؤلفون بلغتهم الأم، فإن جمهورهم المستهدف يكون أبناء شعوبهم. وتنسجم هذه الكتابات مع مظالم الناس وأولوياتهم؛ وتتحدث عن تطلعاتهم، وتكون كلمات هؤلاء الكُتاب متجذرة في التاريخ الجماعي لبلدانهم. ولسوء الحظ، ولو أن هذا غير مستغرب، فإنها ليس ثمة علاقة لهذا كله بأكاديمية مقرها ستوكهولم، والتي تم إنشاؤها قبل عقود من النهاية الرسمية للاستعمار الغربي في إفريقيا.
في كتابه المهم “معذبو الأرض” The Wretched of the Earth، كان المفكر الأسود، فرانز فانون، من أوائل الأصوات الثورية التي تناولت قضية إنهاء الاستعمار الفكري.
وكتب فانون: “إن الإمبريالية تترك وراءها جراثيم العفن التي يجب أن نكتشفها سريريًا ونزيلها من أرضنا -وإنما من عقولنا أيضًا”. ولا يتم فعل ذلك من أجل الحصول على جائزة أو تقدير أكاديمي أو شرف أدبي. بدلاً من ذلك، يشكل هذا مطلبًا أساسيًا لتحرير إفريقيا فعلاً -وبقية جنوب الكرة الأرضية- من اعتمادها المستمر على موافقة الغرب.
حتى يحدث إنهاء حقيقي للاستعمار، فإن اللغة الراديكالية وحدها لن تكفي. إن المطلوب هو إعادة كتابة منهجية للتاريخ، من وجهة نظر المستعمَر، واستعادة كل جزء من السرد الأدبي، بدءًا بمنهجية البحث ذاتها. ووفقًا للمؤلفة الماورية،(1) ليندا توهيواي سميث Tuhiwai Smith Linda، فقد تم تصميم البحث الحديث ليدور حول الأولويات الغربية.
وكما كتبت توهواي سميث في كتابها المهم “منهجيات إنهاء الاستعمار: البحث والشعوب الأصلية” Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous Peoples، فإنه: “من وجهة نظر المستعمَر، وهو الموقف الذي أكتب منه، والذي اخترتُه كامتياز، يرتبط مصطلح ’بحث‘ research ارتباطًا وثيقًا بالإمبريالية والاستعمار الأوروبيين. وربما تكون الكلمة نفسها، ’بحث‘، واحدة من أقذر الكلمات في مفردات عالم الشعوب الأصلية”.
وكتبت أن التاريخ “هو قصة الأقوياء وكيف أصبحوا أقوياء، ثم كيف يستخدمون قوتهم لكي تبقيهم في مواقع يمكنهم فيها الاستمرار في السيطرة على الآخرين”.
في بعض الأحيان، يمكن أن تكون المصادقة المشروطة والامتيازات المحدودة من خلال الجوائز وإيماءات الموافقة المماثلة في حد ذاتها محاولة “للسيطرة على الآخرين”.
في النهاية، ليست الجوائز هي المهمة، وإنما المهم ما جرى البحث فيه، وكتابته، وتأثيره على جعل العالم مكانًا أكثر إنصافًا.
*رمزي بارود صحفي ومؤلف ومحرر موقع “ذا بالستاين كرونيكل”. هو مؤلف لخمسة كتب. آخر كتاب له هو “هذي السلاسل سوف تُكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية”. صدر عن مطبعة كلاريتي، أتلانتا. وهو زميل باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية CIGA، جامعة الزعيم في إسطنبول.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Empty Gestures or Substantive Change? On the Nobel Prize in Literature and Its Discontents
هامش المترجم:
(1) الماوري (Māori): هم السكان الأصليون لنيوزيلندا وجزر كوك. قدم أسلافهم البولينيسيون إلى نيوزيلندا بين العامين 800 و1300، من الجزر البولينيسية الأخرى. في اللغة الماورية، كلمة “ماوري” تعني “العادي” أو “المألوف”. واللغة الماورية مرتبطة بشكل وثيق باللغات الأخرى المستخدمة في الجزر الواقعة شرق ساموا في جنوب المحيط الهادئ، مثل التاهيتية والهاوائية.