كان متوقّعاً انقلاب عسكر السودان في25 تشرين الأول– وربّما يتكرّر بأي وقت بشكل جديد – ومخرجاته معروفة ومجرّبة، اكتوى بمعاناتها شعب السودان منذ استقلاله، لكن رهان الثائرين أوقعهم في فخّ وَهْمِ “سوار الذهب” جديد، فلا مكّنوا العسكر منذ البداية، ولا أكملوا شوط الثورة حتى النهاية، وقد امتلكوا ميزة على ثورات الربيع العربي، تتمثّل بقيادة مدنية سياسية، على الرغم من اختلافها وخلافها، استطاعت أن تصل إلى اتفاق مع العسكر المنحازين إلى صفّ الثورة، فنالوا شرعية الحكم باسمها،وتقدّموا المشهد، ريثما ينهون ترتيب أوراقهم، بعد أن أنهوا 30سنة مثّلها “البشير” ديكتاتوراً عسكرياً مستبدّاً، في سابقة سودانية اضطرّتها متغيّرات الموقف أن تكون الثورة صيد شَرَك التشاركية في الحكم بين مدنيين وعسكر.
جديد السودان هذه المرّة اعتماد عسكر فاشلين على المدنيين في انقلاب غبيّ على المكوّن المدني في مجلس السيادة، فرأوهالأقل كلفة لخروجهم على التوافقات والمواثيق التي أبرمت، بعد انعدام الثقة بين الطرفين، بحجّة منع السودان من التفتيتوالانحدار نحو الفوضى، وحماية الثورة ومكتسباتها، وتصحيح مسار التحوّل الانتقالي، والإسراع في جلب الديمقراطية، وصناعة الدستور والانتخابات.
تأتّى ذلك بعد جملة من العراقيل لعمل الحكومة، وخلق المشاكل بين مكوّنات الحرية والتغيير، وشقّها، واللعب على خلافات الأحزاب السياسية، ودفع الأطراف خارج مجلس السيادة والحكومة للمطالبة بتمثيلها أو لمنع الحكومة من أداء دورها في التحقيق في مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة. فصعّدواالأزمات الاقتصادية، ودفعوا الشارع للاحتجاج والتظاهر، لإبراز ضعف الحكومة في معالجة المشاكل السودانية، قديمهاومستجدّها، ووظّفوا خلافات المدنيين وانقسام مكوّنات الثورة واختلافها، وتأجيج الاقتتال بين بعض المكوّنات السودانية، واصطناع انقلاب عسكري “إعلاميّ” بغية عرقلة المرحلة الانتقاليةوالانفراد بالحكم. فجاء البرهان عبر مسرحية هزيلة، لم تقرأ متغيّرات السودان وأبعادها السياسية، مصحّحاً خطأ التشاركية وشذوذه، وملغياً كل ما اتّفق عليه في مجلس السيادة المشترك، منهياً بذلك نصف المسيرة لنصف ثورة، مُخلِياً طرفه من تنفيذ استحقاقات وثيقة الإعلان الدستوري، معلناً حالة الطوارئ، مسلّحاً بضغط داخلي ودعم ودفع خارجي، إقليمي ودولي، فلا يعدّ فِعلتَه انقلاباً، بل تصحيحاً للمسار، وخلطاً لأوراق قوى الداخل وصراعات الخارج، وإعادة توليف الشركاء، ولو عبر مقايضات مع مدنيين تشرعن وتضمن استمرار الإمساك بالسلطة، على الرغم من المواقف الدولية المستنكرة “إعلامياً“ لما حدث، على الرغم من انكشاف الخيوط الخارجية للعبة من أمريكا الداعية لعدم تهميش أحد الطرفين للآخر، واستعادة المسار الديمقراطي؛ لأن ذلك يضمن دعم التنمية في السودان وتخفيف عبء ديونه وتمويل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما تريد حقيقة ألا يكون السودان بسمة عربية إفريقيّة لمستقبل بلا عسكر، وروسيا والصين اللتان تبحثان عن تعزيز وجودهما ومصالحهما، مروراً بالإمارات ومصر الساعيتان إلى وأد أي نجاح لتجربة مدنية ديمقراطية، وصولاً إلى إسرائيل ومطامعها وطموحاتها لتوقيع التطبيع واستجرار استثمارات تمكّن وجودها الإفريقيّ.
فإن تمكّن العسكر-حتى الآن- من مواجهة عقوبات الاتحاد الإفريقي وأماني الجامعة العربية وقلق الأمم المتحدة وغضب أمريكا وأوروبا، فإنهم لن يتمكّنوا من مواجهة السودانيين في شوارع راكمت خبرات نضالية في مواجهة الانقلابات على مدى عقود، وإن ملؤوا سجونهم ومعتقلاتهم بدعاة الحرية والتغيير، وسفكوا الكثير من دماء المتظاهرين والمعتصمين ضد اختطافهم لمسار ديمقراطية السودان وحريته، ومهما امتدّت أيام العسكر، فإنهم سيرضخون لصوت الديمقراطية والحكم المدني، ومهما تكن المساومات الجارية التي تحفظ لهم ماء الوجه، فغباء العسكر وسوء تقديرهم لم يمكّنهم من قراءة السودان الذي يتطلّع للخلاص من الاستبداد والديكتاتورية، وأنهم يجب أن يعودوا إلى ثكناتهم، وألّا يعملوا دمى لتحقيق مآرب قوى إقليمية ودولية لخراب السودان،وليكون اختيار السودانيين الحرّ سيّداً لا شريك له ولا وصيّ عليه.
إن تصميم السودانيين على مطالبهم، واستمرارهم في نضالهم، وتوحّدهم في مواجهتهم السلمية للانقلاب على الديمقراطية، وتعاطف الموقف الدولي ومساندته لحقّهم، سيدفع العسكر للبحث عن مخرج لورطتهم، وأن يعوا أن الحكم بوجودهم لا يكون حرّاً ولا ديمقراطياً ولا مدنيّاً..
فهل من مصدّق أن الحكم يكون بشراكة ديمقراطيين وعسكر، وإن عسكراً من جنس الملائكة؟
رئيس التحرير