بالتأكيد وقف الكثير من الذين كتبوا عن السبب الحقيقي حول إلغاء مناصب الإفتاء في سورية وتوسيع صلاحيات “المجلس العلمي الفقهي” بعد إعادة هيكلته، وكان هذا السبب هو العنوان العريض في مقالاتهم، حيث تغيير هُوِيَّة سورية أصبح متاحاً للنظام السوري أكثر من أي فرصة سابقة.
ربما يعتقد كثيرون أن تغيير الهُوِيَّة للمجتمعات السورية هو هدف مشترك بين إيران والنظام، لكنه ليس هدفاً رئيسياً لروسيا، على أنَّ روسيا يناسبها إجراء تغييرات الهُوِيَّة بالشكل الأقلّ حِدَّة من الشكل الفجّ الذي كانت تعمل عليه إيران، مع حَذَر روسي مستمر من عدم تحوُّل سورية إلى دولة ثيوقراطية.
إبعاد المفتي “حسون” بعد التمهيد لذلك بالردّ عليه ببيان من مؤسسة رسمية كان خُطوة مدروسة من النظام الذي يتحكم بقراره العامّ ممثلو بوتين في سورية، والذين يحرصون على تحقيق استقرار سورية كدولة علمانية متصالحة مع التديُّن، وترعى خصوصية المجتمعات المحافظة بشكل متوازٍ ومتساوٍ لا أكثرية فيه ولا أقليَّة، وهذا مناسب لاستمرار الأسد في السلطة كما صرح المسؤولون الروس مراراً.
وهذه السياسة الروسية مختلفة عن الطريقة الفجّة التي كانت تفرض إيران فيها الهُوِيَّة الشيعية على الدولة والمجتمع وكان حسون والبوطي الابن من أركانها، على أن الطريقة الإيرانية وإن كانت تعمل في الوسط الأضعف وهو المجتمعات السُّنِّيَّة، لكن المفارقة أن الانزعاج لم يكن من السُّنة بمقدار ما كان في السويداء أكبر تجمُّع للدروز وفي الساحل ضِمن الحواضر ذات الأغلبية العلوية، وربَّما السبب وهو محلّ نقاش ونظر أن المجتمعات السُّنية أقرب للطبيعة المحافظة أو هي محدودة العادات والتقاليد ذات البُعد العَقَديّ والأيديولوجي، في حين كان التشيُّع تهديداً حقيقياً لخصوصية طقوس الطائفة الدرزية وتقاليدهم الدينية، وتهديداً للمجتمعات في الساحل السوري البعيدة عن الطبيعة المحافظة بشكل عامّ.
ولذلك وبعيداً عن الشراكة السياسية والأمنية بين النظام وإيران فإنه ثَمة مُفارَقة مجتمعية تجدها روسيا فرصة لتحقيق التوازن من وُجهة نظرها، مع ضمان الحدّ الأدنى المُرضِي لإيران ومرجعياتها الدينية، من هنا فإنَّ حسون لم يكن يمثل السدّ السُّني في مواجهة التشيع القادم من الشرق، كما أن وزارة الأوقاف لا تمثله كذلك، لكنها ولكسب معركتها ضد مؤسسة الإفتاء عملت على استرضاء باقي الأطراف ومنهم الشيعة، وإن لم يكن بالقدر الذي كان يعمل عليه البوطي وحسون، مع العناية بشكل أكبر باسترضاء التوجه الحقيقي وليس الاضطراري للنظام، هو سورية التي يمثل فيها الأسد الرئيس المُؤمِن بكل الأديان والطوائف والمذاهب، ويستطيع فيها ضابط الأمن ضمان هيبته وحضوره وتبجيله في حفلات الساحل والمراسم الوطنية في درعا والسويداء والموالد في مساجد دمشق والنشاط الصناعي في حلب وأهازيج الولاء العشائري في الجزيرة.
المجلس العلمي الفقهي هو إلغاء حقيقي لهُوِيَّة سورية السُّنّيَّة لهُوِيَّة ليست شيعية فقط، وإنما هُوِيَّة جديدة متعددة متساوية، الأمر الذي لطالما حاول النظام الوصول إليه منذ انقلاب حافظ الأسد في 1970، لكنه لم يستطع الوصول إليه إلا بعد تشويه ممنهج ضِمن مؤسسة الإفتاء عمل عليه حسون لأكثر من عَقْد وانتهت مهمته الآنَ.
“نداء بوست”