مع اقتراب موعد الانتخابات الليبية بات المشهد السياسي أكثر تشوشا وسط تعجل المجتمع الدولي بعقد انتخابات تحمل الكثير من المخاطر، مثل عودة رموز النظام الماضي والسماح لرموز الحكومة الحالية بالمشاركة فيها ومخاوف من استخدام الميليشيات المسلحة الانتخابات لتخويف الناخبين. فالمجتمع الدولي، كما بدا في مؤتمر باريس الذي عقده الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمشاركة 30 دولة وحضرته نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، دعم فكرة عقد الانتخابات في موعدها المقرر 24 كانون الأول/ديسمبر. ودعا البيان الختامي إلى خروج القوات الاجنبية، أي القوات التركية والمرتزقة الروس. واللافت في الأمر أن المؤتمر عقد وسط أزمة سياسية بين فرنسا والجزائر التي رفض رئيسها، عبد المجيد تبون حضور المؤتمر. وكذا غاب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان عن المؤتمر، حيث أرسلت أنقرة وفدا على مستوى منخفض. وكان هدف المؤتمر الرئيسي هو بناء زخم حول فكرة خروج القوات الأجنبية، وبالتحديد التركية، مع أن أنقرة ترى أن وجودها جاء بناء على دعوة حكومة الوفاق الوطني التي كان يترأسها فائز السراج. ولهذا ألمح رئيس الوزراء الانتقالي عبد الحميد الدبيبة إلى المقاتلين الأجانب والمرتزقة وضرورة خروجهم دون الإشارة إلى القوات الأجنبية التي كانت ستشمل التركية. ودعا بيان باريس النهائي إلى فتح باب الترشيح للجميع بدون تمييز، مما يقترح السماح للدبيبة الدخول في السباق. وهذا يعكس رغبة الدول المشاركة والأمم المتحدة إعادة كتاب القواعد التي وضعتها في عملية تشكيل الحكومة في شباط/فبراير والسماح للدبيبة للترشح، مع أن تقريرا غير منشور ربما احتوى على نتائج حول تقديم أنصاره رشاوي لتأمين انتخابه رئيسا للوزراء.
هل ستجري بموعدها؟
وفي الوقت الحالي لا يوجد دستور ولكن إطارا زمنيا لخروج 300 مرتزق، مما يعني أن المفوضية العليا للانتخابات في لييبا هي التي ستتولى عملية البت والنظر في القضايا الخلافية. علاوة على أن هناك مشاكل فيمن يحق له الدخول في الانتخابات ممن لا يستحق. بالإضافة للخلاف حول الانتخابات نفسها، هل تعقد البرلمانية أولا ثم الرئاسية. وهناك دعوات من مسؤولين في المجلس الرئاسي لتأجيلها إلى العام المقبل. ومع افتتاح باب الترشيح، تأكدت الشائعات التي كانت تدور منذ وقت، فقد قدم نجل الزعيم السابق، سيف الإسلام القذافي، الذي ظهر بصورة جديدة وشكل مختلف عما عهد عنه في أيام سلطة والده، وبات صورة مزدوجة عن والده. ثم أعلن أمير الحرب خليفة حفتر عن تقديم أوراقه، وكان حفتر الذي تسيطر قواته على الشرق قد تخلى عن قيادة ما يعرف بالجيش الوطني الليبي والتفرغ للانتخابات. وأعلن عقيلة صالح، رئيس برلمان الشرق عن خطط للمشاركة وكذا وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، والذي خسر بداية العام الحالي أمام الدبيبة. وثار جدل واحتجاجات، وخاصة في مصراتة على ترشيح سيف الإسلام القذافي نفسه، مع أن تقديم أوراق الترشيح والتسجيل لا تعني قبولا لطلبه، وقد يرفض حسبما قال مسؤولون. ولم يتقدم الدبيبة بعد بطلب التسجيل بعد. ويتعامل المجتمع الدولي مع الانتخابات على أنها الحل، بدون السؤال عن نزاهتها وإن كانت ستحل مشاكل البلاد أم خطوة على طريق الحل. فالمجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي يقود رئيسها زمام المبادرة لم يلتزم بليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي، فما هي الضمانات لالتزامه بعد الانتخابات؟ ويعرف المراقبون أن الانتخابات ليست هي الحل، فبعد الإطاحة وقتل القذافي عام 2011 عقدت انتخابات لكنها لم تقد إلا لمزيد من القتل والفوضى وانقسام البلاد إلى حكومتين، في الشرق والغرب. وأوضح مثال على المشاكل الناجمة عن الانتخابات العراق وإثيوبيا، فالتيار المهزوم في الأولى رفضها وحاول اغتيال رئيس الوزراء. وفي إثيوبيا هناك إمكانية لتفكك البلاد وانجرارها لحرب أهلية دموية.
عودة الإبن الضال
ولعل عودة سيف الإسلام هي التي أثارت اهتماما إعلاميا واسعا، فهو خارج الصورة منذ مقتل والده، حيث ظل معتقلا لدى مقاتلي الزنتان في الجبال الغربية. وأفرج عنه قبل أربعة سنوات. ومنذ ذلك الوقت جرت عدة محاولات لإعادة تأهيله، من أنصار له في الخارج، بل وحاولت روسيا إعادة تأهيله من خلال شركة فاغنر، وجرى اعتقال روسيين في طرابلس أوكلت لهما المهمة. وفي مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» أجراها مراسل الصحيفة من مكان اختفائه في ليبيا، ربما الزنتان، بشر القذافي بالعودة وطرح لغة تحمل الحنين إلى أيام الاستقرار في عهد والده وانتقد الأوضاع التي آلت إليها البلاد منذ رحيل والده، واتهم الثوريين بتدمير بلادهم واشتكى من عدم توفر الطعام والوقود مع أن ليبيا تصدر النفط إلى إيطاليا، وموضع نفسه في صورة المنقذ. لكنه قال إنه لن يخرج بسرعة بل ويحتاج ببطء، فعليك أن تخرج خطوة خطوة «كراقصة التعري».
وخيب سيف الإسلام التوقعات منه بعدما قدم نفسه أو قدم كمصلح يعبر عن جيل جديد متنور يختلف عن والده الديكتاتوري الذي أقام جماهيرية ودولة رعب، وبدلا من الوقوف مع مطالب المحتجين هددهم. وحاول اليوم سيف الإسلام، 49 عاما الذي ابيضت لحيته وتخلى عن البدلة وارتدى عمامة بنية وعباءة تشبه عباءة والده تعبيرا عن فصل جديد من حياته، الدخول في الممارسة السياسية التي حرم والده شعبه منها، ويبدو أنه يتلاعب على مشاعر السكان المتعبين من الحروب والدمار ويثير الحنين لزمن يعرف أنه لن يعود أبدا.
خلط الأوراق
وترى صحيفة «إندبندنت» (18/11/2021) أن توقيت إعلان القذافي عن مشاركته والطريقة التي تمت بها في سبها، جنوب ليبيا خلطت حسابات الكثير من اللاعبين الراسخين والمتدافعين على السلطة خلال السنوات العشر الماضية، فبعد يومين من إعلان سيف عن ترشحه، قدم حفتر يوم الثلاثاء أوراقه وبشر الليبيين بخطاب ألقاه «بعد سنوات من المعاناة، فتحت الأبواب لكم لكي تعيدوا بناء البلد». وقد لا يسمح لسيف الإسلام المشاركة نظرا لأنه مطلوب للجنائية الدولية بتهم جرائم الحرب وملاحق محليا بعد صدور حكم بالإعدام عليه في طرابلس عام 2015. ورغم حصول رئيس الوزراء الحالي على دعم دولي إلا أنه يظل الأضعف بين قائمة المرشحين الحالية. وترى الصحيفة أن العملية الانتخابية زادت من التنافس بين الجماعات المسلحة وأدت لدعوات لمقاطعتها. وقالت فيرجينيه كلومبية، الخبيرة بشؤون ليبيا في المعهد الجامعي الأوروبي في فلورنس «لا توجد هناك إمكانية لعقد انتخابات في السياق الحالي، سواء ترشح سيف ام لم يترشح». و»هناك الكثير من اللاعبين يريدون وقف كل العملية قبل وبعد الانتخابات». وتضيف الصحيفة أنه حتى لو يسمح للقذافي المشاركة، فمجرد تقديمه أوراقه منحته الشرعية وربما أسهمت في تعبئة أنصار النظام السابق. ويرى جلال الحرشاوي من المبادرة الدولية ضد الجريمة المنظمة «لم يكن شيئا قبل 10 أعوام» و «قد يتحول الآن إلى زعيم كتلة يجب على المعسكر الآخر التفاوض معها». ويشكك آخرون من نوايا سيف الإسلام، ويقول أنس القماطي، مدير معهد الصادق إن سيف الإسلام يتعامل مع لييبا كحقه بالولادة. ويقول إنه «يريد أن يكون رئيسا لكل الليبيين مع أني أعتقد أنه يريد حكم كل الليبيين». وهو كغيره من اللاعبين لو سمح له بالمشاركة فلن يكون صاحب قرار مستقل وسيخدم واحدة من القوى الخارجية التي تتنازع السيطرة على البلاد، مصر، الإمارات العربية المتحدة، فرنسا أو تركيا. ومن الواضح أن هناك علاقات جيدة بين سيف الإسلام وروسيا. ونشر موقع «بلومبيرغ نيوز» في العام الماضي وثيقة عثر عليها مع موظفي فاغنر، وتشير للقائهما القذافي ثلاث مرات، حيث عرضا عليه الدعم من أجل الترويج له كلاعب سياسي في ليبيا واستخدام منصات التواصل الاجتماعي. ويقول القماطي إن لعبته واضحة وهو «يعتقد أنه يمكن التلاعب في الانتخابات وتزويرها عبر المشاعر الاجتماعية وصناديق الاقتراع، ونظرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي تظهر تدفقا للمشاعر الداعمة لسيف الإسلام، مع أن بعضها قد لا يكون حقيقيا». ولو ترشح سيف الإسلام فسيمثل تحديا للمجتمع الدولي. ويرى الجميع أنه لن يفوز، لكن هناك فرصة. وربما استطاع أن يجتذب أصوات الداعمين لحفتر الذي تراجعت شعبيته. وفي أوراق فاغنر، زعم أن سيف الإسلام يمكنه الحصول على 80 في المئة من أصوات داعمي أمير الحرب. ولا يعدم أن هناك تكهنات وشائعات تنتشر هنا وهناك من أن ترشح القذافي هو من أجل تعبيد الطريق أمام خليفة حفتر. ونفس الكلام قيل عن عقيلة صالح. لكن المعلق في صحيفة «فايننشال تايمز» ديفيد غاردنر يرى أن خطة القذافي أبعد من حفتر، مع أن عودة سيف الإسلام لا تعني أنه يحمل مفتاح الحلول لمشاكل البلد الكثيرة.
لا يملك الحل
مشيرا إلى أن الكثير من الليبيين في الوطن ومن توزعوا في المنافي يتساءلون: ما هو السؤال الذي يمكن تصوره في كون سيف الإسلام الجواب؟ ويجيب أن ترياق الغرب- أمريكا وأوروبا بتحضير أبناء المستبدين لخلافة آبائهم وتقديمهم كمصلحين فشل، ومصر وسوريا شاهد على هذا. مع أن سيف الإسلام كان مختلفا فقد «جذب إليه الكثير من النظرات المتفائلة، وكرم كمصلح في العديد من العواصم الغربية والعربية ورحب به المجتمع الراقي في لندن». ولكن «القناع» هذا سقط في الثورة ضد والده عام 2011. ومن هنا سواء ترشح نجل القذافي أو لم يترشح فانتخابات ليبيا المقبلة لن تؤدي، لو حدثت، لإعادة توحيد البلاد. و»لن يكون سيف الإسلام قادرا على إحياء نظام والده المسرحي المضاء بخلفية من الكلام الطنان والتهريج». وهو ما ذهبت إليه صحيفة «التايمز» (15/11/2021) حيث قالت إن لديه فرصة، ولكن ليست كبيرة للفوز فيها. ويتعهد القذافي الإبن بـ «إعادة وحدة ليبيا» ولا يخفى أن هناك رغبة من الليبيين للهروب من الفوضى وعدم الاستقرار التي عانى البلد منها منذ الربيع العربي في 2011. ولا يزال هناك في ليبيا عدد قليل من الحرس القديم الذين يرون في نجل الطاغية «منقذا» لكن ما تم كسره لا يمكن إصلاحه إلا عبر جهود دبلوماسية مكثفة لو اريد له أن يدخل الانتخابات. و «من السذاجة الاعتقاد أن القذافي الإبن يحمل المفتاح وأن بلدا متشرذما مثل ليبيا سيجد في ظل حكمه هدفا مشتركا أو طريقا نحو دولة متماسكة». و «لا توجد هناك إشارات أن نجل القذافي لديه الدهاء أو القوة العسكرية لإعادة بناء دولة موحدة». وتقول إن القذافي الإبن يزعم أنه يريد إنقاذ بلد والده، وفي الحقيقة يريد الفرار بجلده.
وبهذه التشكيلة من المرشحين حتى الآن، ماذا يتوقع 4 مليون ليبي سجلوا للاقتراع؟ وتتوقع صحيفة «الغارديان» (14/11/2021) أن تقود انتخابات الرئاسة لجولة ثانية بين المرشحين اللذين سيحصلان على أعلى أصوات. والمفارقة هنا أن حفتر الذي قلل في أكثر من مقابلة من أهمية الديمقراطية يريد ممارستها اليوم، ففي مقابلة أجرتها معه مجلة «جون أفريك» ونشرتها في شباط/فبراير 2018 أن ليبيا ليست جاهزة للديمقراطية. وهناك تقارير عن تقربه من إسرائيل للمساعدة في انتخابه، حيث أرسل ابنه صدام إلى هناك وعرض التطبيع مقابل الدعم. ونفس الأمر قيل عن سيف الإسلام الذي قالت تقارير إنه يستعين بشركة استشارات إسرائيلية. وحتى الآن فنحن أمام أمير حرب تلاحقه القضايا في أمريكا وتتهم قواته بجرائم حرب ونجل زعيم سابق ملاحق من الجنائية الدولية ورئيس وزراء ورئيس برلمان ووزير داخلية سابق وغياب للتوافق أو الآليات التي تعني انتخابات نزيهة فإن المشهد منفتح على احتمالات عدة، سواء عقدت الانتخابات أم لا.
“القدس العربي”