منذ حملته في الانتخابات الرئاسية، تعهد الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن ببدء حملة جديدة لنشر الديمقراطية في العالم، على اعتبار أنها هي عنوان نمط الحياة الأمريكية والراية الخفاقة لقيادتها العالمية. وأعلن خلال الانتخابات أنه سيدعو في العام الأول من رئاسته إلى مؤتمر عالمي للديمقراطية، ليكون خطوته الأولى على هذا الطريق. وها هو فعلا، بر بوعده، وعقد قمة عالمية افتراضية للديمقراطية، شارك فيها بين من وجه إليهم الدعوة جايير بولسونارو رئيس البرازيل، الصديق الحميم لدونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق المعروف بعدائه للديمقراطية، ورؤساء دول أو حكومات أقل ما يقال عنهم أنهم غير متعاطفين مع الديمقراطية، أو الحكم المؤسسي واحترام القانون، مثل رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو رئيس وزراء بولندا.
ولذلك فقد واجه المؤتمر الأول لقمة الديمقراطية الذي افتتحه بايدن في 9 ديسمبر/ كانون الأول انتقادات شديدة تتعلق بأهدافه، ومعايير دعوة المشاركين فيه، ومدى مصداقية الولايات المتحدة في شعاراتها المطروحة، بل إن البروفيسور ستيفن والت أستاذ السياسة في جامعة هارفارد قال، إن المؤتمر قد يسفر عن نتائج عكسية لصالح كل من الصين وروسيا، وهما الدولتان اللتان يهدف بايدن إلى محاصرتهما.
الأغلبية العظمى من الشباب الأمريكي تعتقد أن ديمقراطية بلدهم مريضة، ونسبة تزيد عن النصف تعتقد أنها «ديمقراطية فاشلة»
الانتقادات الأشد التي تم توجيهها إلى «قمة الديمقراطية» تتعلق بعدم مصداقية الشعارات التي ينادي بها بايدن قولا، ويطالب الدول الأخرى أن تلتزم بها، مكتفيا بالأقوال لا الأفعال في سياسته الخارجية، وفي وقت تظهر فيه استطلاعات الرأي العام تراجع الثقة في النظام السياسي القائم في الولايات المتحدة، بين المواطنين الأمريكيين أنفسهم، خصوصا الشباب، وفي كل أنحاء العالم تقريبا.
وطبقا لاستطلاع رأي أخير أجراه معهد السياسة في جامعة هارفارد فإن نسبة الثقة في «الديمقراطية الأمريكية» بين الشباب في الفئة العمرية من 18 إلى 29 سنة هبطت إلى 7% فقط، وأن الأغلبية العظمى من الشباب تعتقد أن الديمقراطية الأمريكية مريضة، بل إن نسبة تزيد عن النصف تعتقد أن الديمقراطية الأمريكية تعاني من أزمة حقيقية أو أنها «ديمقراطية فاشلة». أما على صعيد حرية التعبير وإبداء الرأي، التي تفتخر بها الولايات المتحدة، فقد أشار استطلاع للرأي أجراه معهد «كاتو» للبحوث السياسية في منتصف العام الماضي إلى أن 62% من الأمريكيبن يمتنعون عن الجهر بآرائهم السياسية، خشية تعرضهم لمضايقات أو تداعيات سلبية نتيجة لذلك. وذكر 58% من المشاركين في الاستطلاع، أنهم يمارسون على أنفسهم «رقابة ذاتية» عندما يعلنون وجهات نظرهم في قضايا مختلفة، خصوصا في السياسة. وعلى صعيد صورة الولايات المتحدة في العالم، وكيفية رؤية الأجانب للديمقراطية الأمريكية، فقد جاء في نتائج أحدث استطلاع للرأي أجراه معهد «بيو» وهو أحد أهم مراكز استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة والعالم، أن 17% فقط من المشاركين في الاستطلاع على مستوى العالم يعتبرون أن»الديمقراطية الأمريكية هي نموذج جيد يحتذى». هذه الصورة السلبية عن الديمقراطية الأمريكية ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب؛ فقد كان توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» الصادر عام 2014 قد وجه انتقادات قاسية للديمقراطية الأمريكية، وقال إنها تتحول تراجعا إلى الخلف، إلى نظام سياسي «أوليغاركي» تسيطر فيه أقلية من جماعات المصالح على مراكز النفوذ الرئيسية في مؤسسات المال والإعلام وصنع السياسة. كما ظهر فريق من أساتذة السياسة الأمريكيين يحذر من «فشل الديمقراطية الأمريكية» بعد فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وخلال سنوات حكمه. وقد جاءت أحداث السادس من يناير/كانون الثاني الماضي لتؤكد هذه الشكوك بشأن الديمقراطية الأمريكية. فهل يستطيع بايدن أن يبيع للعالم باسم الولايات المتحدة ما تفتقده؟
بايدن يدين نفسه
في كلمته الافتتاحية لقمة الديمقراطية قال بايدن، إن السبب وراء عقد هذه القمة هو أن الديمقراطية تحتاج إلى «أبطال للدفاع عنها» بعد التدهور الذي لحق بها خلال السنوات الماضية. وفي تفسير ذلك اعتمد على التقارير الأخيرة للمعهد الدولي للديمقراطية، ومنظمة «فريدوم هاوس» وغيرهما، التي اتفقت على أن الديمقراطية تراجعت في العالم كله خلال الـ 15 عاما الأخيرة. وأن نصف الديمقراطيات في العالم كله تراجعت على الأقل في مؤشر واحد من مؤشرات الحكم الديمقراطي خلال السنوات العشر الأخيرة. واعترف بايدن بزيادة استياء الناس على مستوى العالم من سلوك «الحكومات الديمقراطية في بلادهم، بما في ذلك الولايات المتحدة» لأنها حسب كلماته أنها «تفشل في تلبية احتياجاتهم».
ديمقراطية ناشئة أم قيادة عالمية؟
في خطابه الافتتاحي للقمة عدد جوزيف بايدن إنجازات إدارته للدفاع عن الديمقراطية في الولايات المتحدة. ما عرضه في هذا السياق صادم ويثير سؤالا غريبا: هل الولايات المتحدة ديمقراطية ناشئة؟ أم أنها هي قيادة النظام الديمقراطي في العالم؟ من الأمثلة التي أكد عليها ما يلي: «نحن نحتاج إلى سنّ ما نسميه قانون حرية التصويت، وقانون جون لويس لتعزيز حقوق التصويت لمنع التمييز في التصويت، وتوفير خطوط أساسية للوصول إلى صندوق الاقتراع، والتأكد من دعم إرادة الناخبين، وأكثر من ذلك بكثير». هذا يعني أن النظام السياسي الأمريكي بعد أكثر من قرنين من الديمقراطية ما يزال يعاني من مشكلات جوهرية في نظام التصويت الانتخابي، وفي النظام الانتخابي ككل، مثله في ذلك مثل الديمقراطيات الناشئة، التي تستخدم صناديق التصويت في تزييف إرادة الناخبين. وأعاد بايدن التأكيد على قصور الديمقراطية الأمريكية، التي يبرر بها قيادة الولايات المتحدة للعالم بقوله: «ستواصل إدارتي النضال لتمرير تشريعين بالغي الأهمية، من شأنهما أن يدعما أساس الديمقراطية الأمريكية، ألا وهو الحق المقدس لكل شخص في جعل صوته مسموعا، من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومأمونة». والنص منقول عن الترجمة الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية. يقول بايدن معترفا بوجود مشكلات جوهرية في النظام الانتخابي «نحن نسهل على الأمريكيين التسجيل للتصويت، وقد ضاعفنا عدد المحامين الذين يدافعون عن قوانين حقوق التصويت، وإنفاذها من خلال وزارة العدل لدينا». جوزيف بايدن يكشف أيضا عن فساد النظام السياسي الأمريكي أو الديمقراطية، في ما يتعلق بحقوق المساواة وعدم التمييز. فقد قال في خطابه الافتتاحي لقمة الديمقراطية: «في أول يوم لي في منصبي وقّعت على أمر تنفيذي لتعزيز العدالة العرقية والمساواة. وأصدرت إدارتي مؤخرا (الاستراتيجية الوطنية للمساواة والانصاف بين الجنسين) الأولى من نوعها». فإذا كانت الإدارة الأمريكية قد أصدرت للتو استراتيجية من هذا النوع، فلماذا إذن لم تدع مصر التي أصدرت مؤخرا (الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان)؟ لماذا هذا التمييز إذا كانت الولايات المتحدة، التي تدعم قيادة العالم الديمقراطية ما تزال على الطريق لوقف التمييز العرقي والجنسي؟ وقد عدد بايدن التشريعات والبرامج التي مررتها إدارته، أو تتبناها حتى الآن في مجالات توفير اللقاحات وفرص العمل والاستثمار في البنية التحتية وتوفير المياه النقية والطرق الآمنة والإنترنت العريض النطاق عظيم السرعة، على أساس أنها تمثل جزءا من العناوين الرئيسية للديمقراطية الأمريكية؛ فإذا كان الأمر حقا كذلك فلماذا تشن الولايات المتحدة حربا على الصين، وهي التي حققت نجاحا بمعدلات أكبر في تلك المجالات؟ ولماذا إذا وفرت الولايات المتحدة لقاحات أكثر وفرص عمل ومشروعات بنية أساسية، يجب أن نصفق لها، لكن إذا فعلت الصين الشيء نفسه يجب أن نهاجمها ونفرض عليها العقوبات ونقرر مقاطعة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تستضيفها في شهر فبراير/شباط المقبل؟
خطورة الحرب الأيديولوجية
الإدارة الأمريكية الحالية تشن حربا أيديولوجية واسعة النطاق ضد الصين وروسيا؛ فهي تستعيد بذلك شريط الحرب الباردة، التي انتصرت فيها وانتهت بسقوط الاتحاد السوفييتي بدون طلقة رصاص. بمعنى آخر فقد كانت الحرب الباردة وليس الحرب النووية هي سلاح «تغيير النظام» regime change الذي تم استخدامه بنجاح. ويتفق جمهور كبير من الأكاديميين والمفكرين أن الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة تختلف كثيرا عما كان عليه الحال في الحرب الباردة الأولى. وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تقسيم العالم، فإن هذا السعي يصطدم مع حقائق التشابك بين دول العالم، من خلال النظام الدولي المتعدد الأطراف، المنتظم القواعد، الذي يخضع لتقسيم جديد للعمل الدولي، لم يكن موجودا من قبل. الأخطر من ذلك أن الولايات المتحدة التي كانت القوة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وإلى جانبها روسيا، تعاني الآن من أعراض الضعف وأفول القوة. ومن أكثر المسائل التي يجب أن تصدم صناع القرار في واشنطن، أن الولايات المتحدة التي فشلت في بناء الديمقراطية والتنمية في أفغانستان بعد عشرين عاما من الاحتلال، كما فشلت في العراق بالقدر نفسه، ليست هي الولايات المتحدة التي نجحت في إعادة بناء أوروبا والإشراف على بناء اليابان سياسيا واقتصاديا بعد الحرب العالمية الثانية.
كاتب مصري
“القدس العربي”