المصدر: فورين أفيرز
ترجمة: عبدالحميد فحّام
بقلم: جيمس جيفري (مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون. عمل موظفاً في السلك الدبلوماسي في سبع إدارات أمريكية، كان آخِرها ممثلاً خاصاً للانخراط في سورية ومبعوثاً خاصاً للتحالف الدولي لهزيمة داعش).
نظراً لأن الرئيس الأمريكي جو بايدن وفريقه يُركّزون على الملف النووي الإيراني، فإن الحرب في سورية لا تزال جرحاً متقيحاً في قلب الشرق الأوسط، وبالرغم من أن الإدارة الحالية لم تقم بأي خروج دراماتيكي عن نهج الإدارات السابقة، إلا أن قرارها بإلغاء أولوية الصراع يأتي في وقت سيئ للغاية في الوقت الذي تظهر فيه فرص لإيجاد حلّ للأزمة السورية، ويجب على الولايات المتحدة تكريس الطاقة الدبلوماسية اللازمة لاغتنامها.
إن مفاتيح النجاح بعد سنوات من الفشل لا تشمل فقط المشاركة عالية المستوى ولكن التقييم الواقعي لما يمكن تحقيقه في أي صفقة.
إنه لمخاطرة كبيرة أن يتمّ إبقاء سورية في مؤخرة أولوياتنا فالصراع قد خلّف فوضى عارمة ويمكن أن تكون إستراتيجية: فانتصار نظام بشار الأسد سيرسل رسالة إلى الحكام المستبدين في جميع أنحاء العالم بأن القتل الجماعي هو تكتيك قابل للتطبيق للاحتفاظ بالسلطة ويشير إلى الصعود الإقليمي لعناصر التمكين الروسية والإيرانية للأسد.
ولقد ولّدت هذه الحرب أيضاً تهديدات جيوسياسية، من صعود تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أيضاً باسم داعش)، إلى نشر الصواريخ الإيرانية الدقيقة التي تستهدف إسرائيل، إلى التدفقات الهائلة للاجئين التي تهدد بزعزعة استقرار الدول المجاورة وأوروبا.
وبالنسبة للسوريين أنفسهم، أدّت الحرب التي استمرّت عقداً من الزمان إلى وقوع إصابات مروّعة، وتشريد نصف السكان من ديارهم، وترك معظم المواطنين مُعدمين. وإذا ما تُركت هذه الديناميكيات دون معالجة، فإنها ستهدد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
لقد اجتذبت الحرب السورية أيضاً الجيوش الأمريكية والإسرائيلية والتركية، ولا يزال خطر الاشتباكات بينها وبين القوات الإيرانية والروسية والسورية حقيقياً للغاية.
وتنظر واشنطن إلى جيب قوات سورية الديمقراطية في شمال شرق سورية على أنه حليف مهم ضد “داعش”، لكن أنقرة تعتبر المجموعة الكردية تهديداً إرهابياً.
كما أن هناك استفزازين أخيرين -انتهاك الأسد في تموز/ يوليو 2017 لوقف إطلاق النار في الجنوب الغربي الذي تم التفاوض عليه بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهجوم من قِبل مقاتلين مدعومين من إيران في تشرين الأول/ أكتوبر ضد القوات الأمريكية في قاعدة التنف في جنوب سورية، والذي جاء دون رد أمريكي ملحوظ ويمكن أن يشجع الأسدَ أو الإيرانيين على التصعيد في المناطق التي تحرسها القوات التركية أو الأمريكية.
وقد أشار كبار مسؤولي إدارة بايدن مراراً وتكراراً إلى أنهم غير مهتمين ببذل جهد كبير لحل الصراع السوري. ومع تغيُّر الوضع وتشكيل تسوية محتملة، يجب عليهم إعادة تقييم هذا القرار.
فعلى الرغم من أن اهتمام الولايات المتحدة بشأن إيران تهيمن عليه مفاوضات البرنامج النووي الحاسمة بدلاً من الإجراءات الإقليمية لطهران، وبمجرد أن يكون لدى الإدارة مزيد من الوضوح بشأن الموقف من تلك المحادثات، يجب عليها الانخراط بجدية في سورية. إن مخاطر تجاهُل الصراع، والفوائد المحتملة للتوصل إلى اتفاق، كبيرة جداً بحيث لا تسمح بإهدار الفرصة. دَعُونا نعقد صفقة
يجب على الولايات المتحدة أن تقود أي جهد دبلوماسي متجدد للتوصل إلى حل للصراع السوري.
فعلى الرغم من أن أي اتفاق يجب أن يكون متسقاً مع الدور الرسمي للأمم المتحدة، إلا أن واشنطن وحدها هي التي يمكنها تنسيق جهود العديد من أعضاء التحالف المناهض للأسد.
والمحاور الوحيد الذي يمكن أن تتعامل معه الولايات المتحدة في هذه المفاوضات هو روسيا.
فأولئك الذين حاولوا إبرام الصفقات مباشرة مع الأسد منذ عام 2011 أُصيبوا بخيبة أمل مستمرة، وعادة ما ترفض إيران المناقشات حول أفعالها في الدول المجاورة مع دول خارج المنطقة.
كما أن موسكو لا تملك سيطرة كاملة على الأسد ويجب أن تتنافس على النفوذ مع إيران، لكنها تظل الشريك الأكبر في التحالف الروسي السوري الإيراني.
كما أن لدى موسكو أيضاً طموحات محدودة أكثر من دمشق أو طهران، مما يجعلها أكثر قدرة لتبنّي حلّ تفاوضي للصراع.
يجب أن تسعى إدارة بايدن إلى خفض التصعيد خُطوةً بخُطوةٍ من كِلا الجانبين. فقد يكون هذا مشابِهاً للإستراتيجية التي اعتمدتها الإدارتان الأمريكيتان السابقتان، لكن القضايا المحددة التي يجب تحديد أولوياتها ستعتمد على تفضيلات إدارة بايدن وتفضيلات شركائها والجانب الآخر. ومن المحتمل أن تكون على رأس القائمة التنازلات السياسية من قِبل دمشق لضمان عودة آمنة للاجئين، بما في ذلك:
1- إعادة التوطين التي تتم مراقبتها دولياً.
2- أحكام أمنية ورقابية مماثلة لإعادة دمج قواتالمعارضة وقوات سورية الديمقراطية.
3- ضمانات أمنية للحدود الجنوبية لتركيا.
4- الإزالة الدائمة للأسلحة الإستراتيجية الإيرانية، لا سيما صواريخها الدقيقة من الأراضي السورية. (الانسحاب الإيراني الكامل غير واقعي).
وفي المقابل، فمن المرجح أن تضغط روسيا على الجيوش الأمريكية والإسرائيلية والتركية للانسحاب من سورية.
كما أنه من المرجح أن تطالب موسكو أيضاً بالتعاون في مكافحة الإرهاب في سورية ضد داعش، الذي يبدو أن الأسد غير قادر على هزيمته، إلى جانب تخفيف العقوبات وعودة اللاجئين من تركيا والأردن ولبنان إلى بلداتهم ومدنهم.
قد تأمل روسيا، ربما بشكل غير واقعي، أن تؤدي هذه الخطوات إلى إطلاق العنان للاستثمار الأجنبي في سورية، وبالتالي تحرير موسكو من محاولة دعم اقتصاد البلاد المنهار.
أخيراً، سيتعين على قرار جديد من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يُبرم رسمياً أي صفقة ويفرض رقابة على التزامات كل جانب.
والنتيجة النهائية ستكون عودة سورية كدولة “طبيعية” وعضو كامل في جامعة الدول العربية.
قد تكون موسكو أكثر استعداداً لاتفاق على هذا المنوال مما تقدره إدارة بايدن.
وتشير التجارب السابقة إلى أن الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع شركائها، يمكنهم ممارسة الضغط الذي يؤثر على حسابات روسيا الإستراتيجية في سورية. ولتعزيز جهود الأمم المتحدة ، وضعت إدارتا ترامب وأوباما، إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية، نظام الأسد تحت ضغط اقتصادي ودبلوماسي.
وقد استجمعت إدارة ترامب في نهاية المطاف القوى من أجل الضغط العسكري لاستكمال العمل الاقتصادي والدبلوماسي: فقد شنت غارات جوية أوقفت هجمات الأسد الكيماوية الفتاكة، وحافظت على القوات الأمريكية في شمال شرق وجنوب سورية، ودعمت التدخلات العسكرية الإسرائيلية والتركية في البلاد.
وبحلول أواخر عام 2018، أدّت تلك الخطوات إلى حالة الجمود السائدة اليوم.
بعد ذلك، دفعت إدارة ترامب الروس إلى حلّ وسط يقوم بشكل عامّ على إنهاء الضغط الدولي، ولا سيما العقوبات، وقبول الأسد مقابل تنازُلات بشأن القضايا الجيوستراتيجية. وشملت هذه، كما لُوحظ، إزالة الأسلحة الإستراتيجية الإيرانية، والتعاون مع العملية السياسية للأمم المتحدة للمصالحة مع قوى المعارضة واللاجئين، وإنهاء برامج الأسلحة الكيميائية.
كان هذا الاقتراح جذاباً بدرجة كافية لبوتين لدعوة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى “سوتشي” في مايو 2019 لمراجعته. وقد اختار بوتين في النهاية عدم عقد الصفقة في ذلك الوقت.
على الأرجح، كان يعتقد أنه يمكن أن يحقق نصراً عسكرياً صريحاً لن يحقق أهدافه الأساسية في سورية فحسب، بل سيؤسس أيضاً دوراً لموسكو تكون فيه لاعباً إقليمياً رئيسياً. ومن المؤكد أن ما شجّع هذا الرأي هو محاولات ترامب المتكررة لسحب القوات الأمريكية من البلاد.
فلقد حاولت موسكو باستمرار تقسيم التحالف المناهض للأسد، وضغطت على الأتراك، والإسرائيليين، والحلفاء الأكراد للولايات المتحدة لعقد صفقات منفصلة مع الأسد. كما شجّع الروسُ تواصُلَ الدول العربية مع دمشق.
آفاق السلام
لكن اليوم، تلاشت الآمال الروسية في تحقيق نصر مباشر للأسد.
ففي مواجهة تصلب النظام السوري، يحتفظ الأتراك والإسرائيليون والأكراد بمواقعهم العسكرية في سورية.
صحيح أن تواصل بعض الدول العربية مع الأسد أمر مقلقاً، ولكن حتى الآن لم يؤدِّ إلى إعادة دمج الأسد في جامعة الدول العربية.
وقد أكدت إدارة بايدن الآن معظم عناصر الإستراتيجية السابقة: الحفاظ على وجود القوات الأمريكية، مع بعض التعديلات، نظام العقوبات؛ حذّرت جميع الأطراف من تحدي وقف إطلاق النار بين القوات التركية والمعارضة الكردية. دعم العمل الجوي الإسرائيلي ضد إيران.
التعاون مع قوات سورية الديمقراطية (SDF) ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وبشكل غير مباشر ضد دمشق. تحميل نظام الأسد المسؤولية من خلال الجهود الدبلوماسية وجمع المعلومات لدعم تحقيقات الأمم المتحدة والعمليات القضائية الأوروبية ضد المسؤولين السوريين؛ وتأييد الجهود السياسية للأمم المتحدة.
وفي ظل هذا الوضع أصبحت خيارات موسكو محدودة. إنها تعلم أن الأسد لم ينتصر في الصراع وليس لديه خيارات واضحة لفعل ذلك. وتسيطر الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة وتركيا على ما يقرب من 30% من الأراضي السورية، بما في ذلك معظم احتياطيات النفط في البلاد وجزء كبير من أراضيها الصالحة للزراعة.
ولا يزال نصف السكان الذين بقوا لاجئين أو نازحين داخلياً يخشون العودة إلى حكم الأسد، وقد قيدت القوات الجوية الإسرائيلية انتشار الصواريخ الإيرانية.
على الرغم من أن المخاطر والتكاليف التي تتحملها موسكو محدودة، إلا أنها ليست بسيطة. وتشمل هذه زيادة تدهور الاقتصاد المتذبذب للأسد، والاحتكاك الداخلي للنظام، والتصعيد غير المقصود مع القوات الإسرائيلية أو الأمريكية أو التركية المتفوقة.
في الواقع، حتى نهاية إدارة ترامب، طرح كبار المسؤولين الروس صفقات محتملة مع الولايات المتحدة كان من الممكن أن تنهي الصراع.
وعِلاوة على ذلك فإن حلفاء واشنطن الإقليميين أصبحوا الآن أكثر اتساقاً. وقد أدت اتفاقيات “إبراهام” إلى تعميق العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربي، وخفف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل كبير خلافاته مع شركاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، وتم إصلاح الخلاف بين قطر ومجلس التعاون الخليجي. ولذلك يحثّ قادة الدول الإقليمية الأكثر أهمية الولايات المتحدة على الاضطلاع بدور أكثر بروزاً.
وحتى الجهود الفاشلة لتحقيق انفراج بشأن سورية من شأنها أن تعزز الدعم الإقليمي لموقف واشنطن، مما يحافظ على حالة الجمود التي تحرم إيران وروسيا من تحقيق نصر إستراتيجي.
من المؤكد أن أي مبادرة دبلوماسية كبيرة بشأن سورية يمكن أن تؤذي الإدارة الأمريكية ولكن القيام بذلك يُعتبَر أقل خطورة من السماح للصراع -وكل ما يصاحبه من مأساة إنسانية ومخاطر أمنية- بالاستمرار إلى أجل غير مسمى، فعلى الرغم من أن الاتفاق لن يكون مثالياً، إلا أن إنهاء الحرب في سورية سيعزز بشكل كبير من قيمة واشنطن كشريك أمني في الشرق الأوسط وما وراءه.