بينما قد ينظر زعماء دول كبرى إلى العام الجاري الذي يوشك على الانتهاء لتقييم أخطائهم وخساراتهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يرى محللون سياسيون أنه يمكن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينظر إلى الوراء في نهاية العام الحالي وهو راضٍ عن أن روسيا قد عززت نفوذها في المنطقة.
واشنطن- تمضي روسيا قدما نحو تعزيز نفوذها في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مزاحمة بذلك كلا من الصين والولايات المتحدة، ومراهنة على عقد شراكات كبرى مع قيادات سياسية تمكنها من توسيع مصالحها في المنطقة.
وبينما شهدت دول منافسة تراجعا لنفوذها في المنطقة، وعرفت انتكاسات كبيرة أثرت على مصالحها هناك، يقول المحلل الجيوسياسي صموئيل راماني إن العام الجاري كان سعيدا على روسيا في الشرق الأوسط.
إدارة للملفات
تتدخل موسكو بشكل غير مباشر في الأزمة الليبية، وتتقاسم النفوذ هناك مع عدد من الدول وفي مقدمتها حليفتها أنقرة.
ويقول راماني في تقرير لمؤسسة “عرب دايجست” الاستشارية في تقرير حول الاستراتيجية الروسية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا إنه لا يوجد موقف روسي واحد بشأن ليبيا داخل الكرملين. حيث دعم الكرملين المشير خليفة حفتر، ولاسيما سيرغي شويغو. لكن وزارة الخارجية الروسية، ولاسيما مع سيرغي لافروف، كانت متشككة في اعتماد حفتر على المرتزقة، فضلا عن شكوكها بشأن جنسية حفتر الأميركية واحتمالية عدم موثوقيته.
وعندما انسحب من محادثات برلين ومن المحادثات في موسكو مرة أخرى في يناير 2020 عندما كان الروس يحاولون إعادته إلى طاولة المفاوضات، أنفر الكثير من السلك الدبلوماسي داخل روسيا. لذلك من المحتمل أن يكونوا أكثر ميلا لأن يكونوا مجرد متفرجين على الانتخابات. وسيؤدي ذلك إلى سياسة روسية ربما تدعم عدة مرشحين ومواقف. ولكن بالنظر إلى حقيقة أن سيف الإسلام القذافي رشح نفسه وإلى حقيقة أن عقيلة صالح وحفتر مناسبان، فمن المحتمل أن يكون اعتماد هذه الحجة أقل احتمالية. ويعتبر حفتر من الأفراد الذين قد يحبهم الروس أكثر من غيرهم، وحتى القذافي، ولكن هناك أيضا عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الذي أصبح في الواقع أكثر تفضيلا لدى الروس بعد أن بدأ التدخل العسكري التركي في ليبيا في ربيع العام الماضي لأنه كان على استعداد للحديث عن الدبلوماسية وكذلك استمرار هذه الأنشطة العسكرية.
وربما يكون عارف علي نياد شخصا آخر لأنه زار موسكو في مناسبات عديدة، وحضر اجتماعات معهد الدراسات الشرقية ولقاءات ثقافية ويبدو مولعا بروسيا. لذلك يمكن أن يكون هؤلاء هم بعض الأفراد الذين يدفع الروس من أجلهم، ومعظمهم من الجانب الشرقي.
أما في ما يتعلق بالملف السوري، فيرى راماني أن التورط الروسي في سوريا يتمثل أساسا في ضمان القضاء على فلول هيئة تحرير الشام في إدلب. ويبدو أن الهدف الأول والأساسي هو التأكد من سقوط إدلب، وأن يصبح الأسد اللاعب المهيمن في جميع أنحاء سوريا.
كما يحاول الروس بهدوء تأجيج الخوف داخل المجتمع الكردي من هجوم تركي واسع النطاق، مع تجديد تركيا وتوسيع طموحاتها عبر الحدود ضد الأكراد في العراق. إنهم يخبرون الأكراد أن ذلك قد يحدث داخل سوريا أيضا مثلما رأينا في 2019. لذا فهم يشجعون الأكراد على الانخراط إما في شراكات رسمية أو في قنوات خلفية مع نظام الأسد.
ومن الواضح أن الروس يريدون تأمين جزء كبير من عملية إعادة الإعمار السورية، ويواجهون منافسة شديدة من الشركات الإيرانية التي يبدو أنهم يتعاملون معها بشكل ماهر. لكنهم أيضا قلقون أكثر بشأن المنافسة المستقبلية من البلدان التي لديها المزيد من رأس المال لتقديمها على طاولة المفاوضات، مثل الصين أو الإمارات العربية المتحدة أو ربما حتى المملكة العربية السعودية إذا طبّعت مع سوريا.
ويريدون استخدام موقعهم في الأمم المتحدة وكذلك في المؤسسات متعددة الأطراف الأخرى لدعم ما يعتبرونه سيادة سورية. وهذا يعني ضمان أن الحكومة السورية، وليس المتمردين، هي الوحيدة التي يمكنها توزيع المساعدات الإنسانية والغذائية. لذلك فهم يقاومون المساعدات عبر الحدود عند نقاط التفتيش التي لا تمر بأيدي الأسد، ويقاومون أيضا العقوبات أحادية الجانب وفرض العقوبات على سوريا.
علاقات قوية
أما عن العلاقات مع تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان فيقول راماني إن العلاقة بين بوتين وأردوغان كانت حقا حجر الزاوية للعلاقة بين روسيا وتركيا. وغالبا ما تتنازع روسيا وتركيا في جزء ما من العالم أو في جزء من المنطقة، سواء كانت سوريا أو ليبيا أو البحر الأسود أو حتى في القوقاز. وعقد بوتين وأردوغان قمما واجتمعا معا، وكان هذا نوعا من العزم على استكشاف الأخطاء وإصلاحها. ومع ذلك بدأنا نشهد على مدار العامين الماضيين درجة أكبر من التآزر بين الأجهزة الأخرى في الدولتين، والمزيد من المناقشات حول رسم الحدود وعدم التضارب في مسارح مثل سوريا وليبيا، وكذلك مناقشة أكثر حول اقتطاع مناطق نفوذ أو على الأقل المشاركة في حفظ السلام في ناغورني قرة باغ. لذلك أصبحت العلاقة بين روسيا وتركيا على مدى العامين الماضيين أكثر تنوعا وشمولية، وبالتالي أكثر استدامة.
◄ الروس يحتاجون إلى إيجاد مكانة لهم داخل المنطقة لأنهم لن يكونوا قادرين على منافسة الصين في المجال الاقتصادي
ويضيف أن هذا شيء مهم. فمن الواضح أنه لا يزال هناك عدد من مجالات الاحتكاك بين تركيا وروسيا ظهر أحدها مؤخرا، حيث يعود سبب سياسة حافة الهاوية التي تتبعها روسيا في أوكرانيا إلى بيع تركيا طائرات دون طيار من طراز بيرقدار تي.بي إلى الأوكرانيين.
وتبدو تركيا مستعدة للعمل مع الأوكرانيين أيضا على الطائرات المقاتلة وتحديث الدفاع بشكل عام. وهذا هو موضوع القلق. ومن الواضح أن الانتخابات الليبية يمكن أن تصبح نوعا من ساحة المعركة بين تركيا وروسيا، خاصة إذا لم تُجر وصاحبها عنف مع دعم الروس للقوات الشرقية، وربما انحياز تركيا إلى بعض بقايا الحكومة القديمة مع حزب الوفاق الوطني وفتحي باشاغا الذي ربما يكون أحد البيادق المفضلة لديهم في اللعبة.
كما توجد توترات واضحة بين الروس والأتراك حول إدلب وأيضا حول وضع الأكراد في سوريا، فضلا عن شرعية الأسد. لذلك توجد الكثير من مجالات الخلاف الحقيقي، لكن العلاقة تطورت حيث لا يقتصر الأمر على رغبة كل من بوتين وأردوغان في حل المشكلة.
وتتطلع روسيا وتركيا أيضا إلى المزيد من التوسعات الاقتصادية والتجارية طويلة المدى، مثل أهداف تجارية أكثر طموحا، فضلا عن تعاون أكبر في مجال الدفاع، لاسيما في ما يتعلق بإنتاج الطائرات المقاتلة وربما حتى بيع المزيد من منظومات إس – 400. لذلك، بينما تظل علاقة تركيا بالولايات المتحدة متوترة، وعلاقة بايدن مع أردوغان أكثر برودة بعد علاقة ترامب القوية مع الرئيس التركي، يعتقد المحلل السياسي أن العلاقة بين روسيا وتركيا موجودة لتبقى.
وترتبط روسيا بعلاقات أخرى متشعبة في الشرق الأوسط، ويقول صموئيل راماني إنه بالنظر إلى العقد الماضي، منذ أن تشكلت السياسة الروسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد ما عرف بثورات الربيع العربي، ارتبط بوتين بعلاقات وثيقة مع ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. وهناك الكثير من الروابط المؤسساتية العميقة خاصة بين المؤسسة الأمنية الروسية ونظيرتها الإماراتية لأن لديهما وجهات نظر متشابهة حول الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين.
وهناك الكثير من أوجه التآزر الفكري والشخصي بين الروس والإماراتيين والتي ثبت أنها مفيدة للغاية. وكانت الطبيعة المغامرة للسياسة الخارجية الإماراتية، لاسيما في شمال أفريقيا وشرق البحر المتوسط، إلى حد ما، شيئا يمكن لروسيا البناء عليه. وغالبا ما يوفر الإماراتيون القوة المالية للأهداف والغايات التي قد يدعمها الروس في المجال الأمني.
وعلى المدى الطويل ينظر الروس إلى الإماراتيين على أنهم منافسون محتملون في بيئات إعادة الإعمار، لكن الأهداف بينهم كانت مشتركة بشكل عام. والآن يحاول الإماراتيون تقليص بعض تدخلاتهم مما يؤدي إلى تهدئة التوترات مع إيران وتركيا. لكن هذا سيف ذو حدين بالنسبة إلى الروس. فمن ناحية لا يتعين عليهم القلق بشأن تحقيق التوازن بين الإماراتيين والأتراك والإيرانيين والسعي لتحقيق أجندات متناقضة في المنطقة يصعب الحفاظ عليها على المدى الطويل. وهذا أمر إيجابي. وقد يكون الإماراتيون أكثر اهتماما بتقبل بعض مقترحات الأمن الجماعي الروسية، حيث يعيش الجميع في الخليج معا في سلام ووئام.
وقد يكونون على الأقل أكثر استعدادا لاعتبار خفض التصعيد هذا إيجابيا، لكنه أيضا يجعل الإماراتيين وكيلا أو بديلا أقل وثوقية للمصالح الروسية في المنطقة.
ويعتقد المحلل السياسي أن هذا يعني أن الحاكم الذي سيكون أكثر نفوذا على المدى الطويل خلال عقد العشرينات من القرن الحادي والعشرين ربما لن يكون بالضرورة الشيخ محمد بن زايد، بل سيكون ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان موجودا، حيث يتمكن الروس والسعوديون من الحفاظ على درجة من الثقة بشأن قضية أوبك بلس.
كما يحتاج الطرفان إلى التعاون في مجموعة متنوعة من المجالات الأخرى. ويتطلع السعوديون إلى التكنولوجيا الروسية للمساعدة في تطوير البنية التحتية الدفاعية لديهم، خاصة إذا ثبت أن الأميركيين أصبحوا على المدى الطويل أقل استعدادا لبيعهم الأسلحة التي يريدونها.
ويرجح راماني أنه إذا تنازل السعوديون عن بعض مواقفهم، واتخذوا خطوات نحو إعادة الرئيس السوري بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية وإحراز تقدم هناك، فإنه يمكن أن يتوفر للشراكة الروسية – السعودية المزيد من الفرص لتكون أكثر أهمية على مرّ السنوات. ويضيف أن الروس سيبقون على العلاقات مع الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد، لكن مع تحول طفيف في استراتيجياتهم عما رأيناه في 2010.
وضع قوي
◄ الروس سيبقون على العلاقات مع الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد مع تحول طفيف في استراتيجياتهم
يقيم المحلل السياسي حضور بوتين في الشرق الأوسط قائلا إن روسيا لا تزال في وضع قوي في المنطقة، مثلما كانت منذ عشر سنوات.
وعلى المدى الطويل، يرى راماني أن الروس يحتاجون حقا إلى إيجاد مكانة لهم داخل المنطقة، لأنهم لن يكونوا قادرين على منافسة الصين في المجال الاقتصادي، خاصة في ما يتعلق بإعادة الإعمار. ولن يكونوا بديلا للولايات المتحدة. ومن ثم لن يكونوا قوة عظمى في نظام شرق أوسطي ثلاثي الأقطاب كما يتصور بعض الأكاديميين وبعض المعلقين.
لكن قد يضطرون إلى القبول بكونهم شيئا أكثر من مجرد قوة إقليمية أخرى مثل بريطانيا أو فرنسا، وشيء أقل من الولايات المتحدة أو الصين، أي في الوسط مع مكانة واضحة. وقد يحتاجون إلى أن يصبحوا أقل عمومية في مسرح الشرق الأوسط ويختارون المزيد من التخصص.
وعمّا إذا كانت الدبلوماسية الروسية، التي كانت مرنة وقابلة للتكيف بشكل ملحوظ، قادرة على التكيف مع هذا الواقع الجديد والاستفادة بشكل أفضل من مواردها المحدودة في المستقبل، فهذا سؤال لم يُنظر إليه بعد. وقد يكون هذا هو السؤال الحاسم للسياسة الروسية في الشرق الأوسط في عشرينات القرن الحالي.
“صحيفة العرب”